شعر كثير عزة في الغزل
كثير عزة الشاعر العاشق
يقول طه حسين: (كثير الذي تغزل فأكثر الغزل، واتخذ لنفسه صاحبة كانت هي مصدر حبه الغرامي، وهي عزة وكان يتخذ الغزل صنعة، ولقد راج هذا الفن الجديد في عصر بني أمية رواجاً ظاهراً جداً نشأ عنه أن كلف به الشعب، فأضاف لحياة كثيّر ما ليس منها واخترع شعراء لم يكونوا قط)،[١] وعليه فقد عُرف عن كثير حبه الشديد لعزة، فسمي بها (كثير عزة)، وقد صار حبه لها من الحقائق الأدبية التي لا يملك الباحث إغفالها حين يتحدث عن حياته الشعرية، وقد تنقلت أخبار ذلك الحب من جيل إلى جيل، وقد اتصلتْ بذلك الحب أحاديث كثيرة عُدّت من الطرائف التي تروى، فقيل إن عزة دخلت على عبد الملك بن مروان، فقال لها: أنت عزة كثيِّر؟ فقالت: أنا عزة بنت جُمَيْل. قال: أنت التي يقول لك كثيِّر:[٢]
لعزة نارٌ ما تَبُوخ كأنها
-
-
-
- إذا ما رَمَقْناها من البعد كوكبُ
-
-
فما الذي أعجبه منك؟ فقالت له: أعجبه مني ما أعجب المسلمين منك حين صيَّروك خليفة! فضحك عبد الملك حتى بدت له سنٌّ سوداء كان يخفيها، فقالت: هذا الذي أردت أن أبديه! فقال لها: هل تروين قول كثير فيك:
وقد زعمت أني تغيرت بعدها
-
-
-
- ومن ذا الذي يا عزُّ لا يتغيرُ
-
-
تغيَّر جسمي والخليقة كالتي
-
-
-
- عهدتِ ولم يخبر بسرك مخبر
-
-
فقالت: لا، ولكني أروي قوله:
كأني أنادي صخرة حين أعرضتْ
-
-
-
- من الصُّمِّ لو تمشي بها العُصْمُ زلَّتِ
-
-
صَفُوحًا فما تلقاك إلا بخيلةً
-
-
-
- فمن ملَّ منها ذلك الوصل مَلَّت
-
-
فأمر بها فأُدْخلت عَلَى أُمِّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان فقالت لها: أرأيت قول كثيِّر:
قضى كل ذي دَيْنٍ فوفَّى غريمَهُ
-
-
-
- وعَزة ممطولٌ مُعَنًّى غريمُها
-
-
ما هذا الذي ذكره؟ قالت قُبلة وعدته إياها. فقالت: أنجزيها وعَلَي إثمها.
نماذج من شعر كثير عزة في الغزل
قصيدة: سراج الدجى صفر الحشا منتهى المنى
يقول كثير عزة:[٣]
سِراجُ الدُجى صِفرُ الحَشا مُنتَهى المُنى
-
-
- كَشَمسِ الضُحى نَوّامَةٌ حينَ تُصبِحُ
-
إِذا ما مَشَت بينَ البُيوتِ تَخَزَّلَت
-
-
- وَمالَت كَما مالَ النَزيفُ المُرَنَّحُ
-
تَعَلَّقتُ عَزًّا وَهيَ رُؤدٌ شَبابُها
-
-
- عَلاقَةَ حُبٍّ كادَ بالقَلبِ يَرجَحُ
-
أَقولُ وَنِضوي وَاقِفٌ عِندَ رَمسِها
-
-
- عَلَيكِ سَلامُ الله وَالعَينُ تُسفَحُ
-
فَهذا فِراقُ الحَقِّ لا أَن تُزيرَني
-
-
- بِلادَكِ فَتلاءُ الذِراعينِ صَيدَحُ
-
وَقَد كُنتُ أَبكي مِن فِراقِكِ حَيَّةً
-
-
- وَأَنتِ لَعمري اليومَ أَنأى وَأَنزَحُ
-
فَيا عَزَّ أَنتِ البَدرُ قَد حالَ دونَهُ
-
-
- رَجيعُ تُرابٍ وَالصَفيحُ المضرَّحُ
-
فَهَلا فَداكِ الموت مَن أَنتِ زينُهُ
-
-
- وَمَن هُوَ أَسوا مِنكِ دَلّاً وَأَقبَحُ
-
عَلى أُمِّ بَكرٍ رَحمَةٌ وَتَحِيَّةٌ
-
-
- لَها مِنكَ والنائي يَوَدُّ وَيَنصَحُ
-
مُنعَّمةٌ لو يَدرُجُ الذَرُّ بَينَها
-
-
- وَبَينَ حَواشِي بُردِها كَادَ يَجرَحُ
-
وَما نَظَرَت عيني إِلى ذي بَشاشَةٍ
-
-
- مِن الناسِ إِلّا أَنتِ في العَينِ أَملَحُ
-
أَلا لا أَرى بَعدَ اِبنةِ النَضرِ لَذَّةً
-
-
- لِشيءٍ ولا مِلحًا لِمَن يَتَمَلَّحُ
-
فَلا زَالَ رَمسٌ ضَمَّ عَزَّةَ سائِلاً
-
-
- بِهِ نِعمَةٌ مِن رَحمَةِ الله تَسفَحُ
-
فَإِنَ الَّتي أَحبَبتُ قَد حالَ دونَها
-
-
- طِوَالُ الليالي وَالضَريحُ المُصفَّحُ
-
أَرَبَّ بِعينِيَّ البُكا كُلَّ لَيلَةٍ
-
-
- فَقَد كادَ مَجرى الدَمعِ عينَيَّ يَقرَحُ
-
إِذا لَم يَكُن ما تَسفَحُ العينُ لي دَمًا
-
-
- وَشرُّ البُكاءِ المُستَعارُ المُسَيَّحُ
-
قصيدة: وإني لأسمو بالوصال إلى التي
يقول كثير عزة في قصيدته:[٤]
وَإِنّي لَأَسمو بِالوِصالِ إِلى الَّتي
-
-
- يَكونُ شِفاءً ذِكرُها وَاِزدِيارُها
-
وَإِن خَفِيَت كانَت لِعَينَيكَ قُرَّةً
-
-
- وَإِن تَبدُ يَوماً لَم يَعُمَّكَ عارُها
-
مِنَ الخَفِراتِ البيضِ لَم تَرَ شَقوَةً
-
-
- وَفي الحَسَبِ المَحضِ الرَفيعِ نِجارُها
-
فَما رَوضَةٌ بِالحَزنِ طَيِّبَةَ الزَرع
-
-
- يَمُجُّ النَدى جَثجاثُها وَعَرارُها
-
بِمُنخَرِقٍ مِن بَطنِ وادٍ كَأَنَّما
-
-
- كَأَنَّما تَلاقَت بِهِ عَطّارَةٌ وَتِجارُها
-
أُفيدَ عَلَيها المِسكُ حَتّى كَأَنَّها
-
-
- لَطيمَةُ دارِيٍّ تَفَتَّقَ فارُها
-
بِأَطيَبَ مِن أَردانِ عَزَّةَ مَوهِناً
-
-
- وَقَد أوقِدَت بِالمَندَلِ الرَطبِ نارُها
-
هِيَ العَيشُ ما لاقَتكَ يَوماً بِوُدِّها
-
-
- وَمَوتٌ إِذا لاقاكَ مِنها اِزورارُها
-
وَإِنّي وَإِن شَطَّت نَواها لِحافِظٌ
-
-
- لَها حَيثُ حَلَّت وَاِستَقَرَّ قَرارُها
-
فَأَقسَمتُ لا أَنساكِ ما عِشتُ لَيلَةً
-
-
- وَإِن شَحَطَت دارٌ وَشَطَّ مَزارُها
-
وَما اِستنَّ رَقراقُ السَرابِ وَما جَرى
-
-
- بِبيضِ الرُبى وَحشِيُّها وَنَوارُها
-
وَما هَبَّتِ الأَرواحُ تَجري وَما ثَوى
-
-
- مُقيماً بِنَجدٍ عَوفُها وَتِعارُها
-
قصيدة: سقى دمنتين لم نجد لهما مثلا
وفي قصيدته يقول:[٥]
سَقى دِمنَتَينِ لَم نَجِد لَهُما مِثلا
-
-
- بِحقلٍ لَكُم يا عَزَّ قَد زانَتا حَقلا
-
نَجاءُ الثُرَيّا كَلَّ آَخِرِ لَيلَةٍ
-
-
- يَجودُهُما جوداً وَيُتبِعُهُ وَبلا
-
إِذا شَحَطَت دارٌ لِعَزَّةَ لَم أَجِد
-
-
- لَها في الأولى يَلحَينَ في وَصلِها مِثلا
-
فَيا لَيتَ شِعري وَالحَوادِثُ جَمَّةٌ
-
-
- مَتى تَجمَعُ الأَيّامُ يَوماً بِها شَملا
-
وَكَيفَ يَنالُ الحاجِبِيَّةَ آلِفٌ
-
-
- بِيَليَلَ ممساهُ وَقَد جاوَزَت نَخلا
-
فَيا عَزَّ إِن واشٍ وَشى بِيَ عِندَكُم
-
-
- فَلا تُكرِميهِ أَن تَقولي لَهُ أَهلا
-
كَما لَو وَشى واشٍ بِوُدِّكِ عِندَنا
-
-
- لَقُلنا تَزَحزَح لا قَريباً وَلا سهلا
-
فَأَهلاً وَسَهلاً بِالَّذي شَدَّ وَصلَنا
-
-
- وَلا مَرحَباً بِالقائِلِ اِصرِم لَها حَبلا
-
أَلَم يَأنِ لي يا قَلب أَن أَترُكَ الجَهلا
-
-
- وَأَن يُحدِثَ الشَيبُ المُلِمُّ لِيَ العَقلا
-
عَلى حين صارَ الرَأسُ مِنّي كَأَنَّما
-
-
- عَلَت فَوقَهُ نَدّافَةُ العَطَبِ الغَزلا
-
وَنَحنُ مَنَعناَ مِن تِهامَةَ كُلِّها
-
-
- جُنوبَ نَقا الخَوّارِ فَالدَمِثَ السَهلا
-
بِكُلِّ كُميتٍ مُجفَرِ الدَفِّ سابِحٍ
-
-
- وَكُلِّ مِزاقٍ وَردَةٍ تَعلِكُ النِكلا
-
غَوامِضُ كَالعُقبانِ إِن هِيَ أُرسِلَت
-
-
- وَإِن أُمسِكَت عَن غَربِها نَقَلَت نَقلا
-
عَلَيهِنَّ شُعثٌ كَالمَخاريقِ كُلُّهُم
-
-
- يُعِدُّ كَريماً لا جَباناً وَلا وَغلا
-
بِأَيديهِمُ خَطّيّة وَعَلهِمُ
-
-
- سَوابِغُ فِرعَونِيَّةٌ جُدِلت جَدلا
-
تَرانا ذَوي عِزٍّ وَيَزعُمُ غَيرُنا
-
-
- مِن أَعدائِنا أَن لا يَرَونَ لَنا مِثلا
-
نُحارِبُ أَقواماً فَنَسبي نِساءَهُم
-
-
- وَنُصفِدُهُم أَسراً وَنوجِعُهُم قَتلا
-
فَيُؤخَذُ مِنّا العَقلُ دونَ دِمائِنا
-
-
- وَنَأبى فَلا نَستاقُ مِن دمنا عَقلا
-
وَيَضرِبُ رَيعانَ الكَتيبَةِ صَفُّنا
-
-
- إِذا أَقبَلَت حَتّى نُطَرِّفَها رَعلا
-
وَأَثبَتُهُ داراً عَلى الخَوفِ ثَملُها
-
-
- فُروعُ عَوالي الغابِ أَكرِم بِها ثَملا
-
وَأَبعَدُهُ سَمعاً وَأَطيَبُهُ نَثاً
-
-
- وَأَعظَمُهُ حِلماً وَأَبعَدُهُ جَهلا
-
وَأَقوَلُهُ لِلضَيفِ أَهلاً وَمَرحَباً
-
-
- وَآمَنُهُ جاراً وَأَوسَعُهُ جَبلا
-
فَسائِل بِقَومي كُلَّ أَجرَدَ سابِحٍ
-
-
- وَسَل غَنَماً رُبّي بِضَمرَةَ أَو سَخلا
-
سَواءٌ كَأَسنانٍ الحِمارِ فَلا تَرى
-
-
- لِذي كَبرَةٍ مِنهُم عَلى ناشِئٍ فَضلا
-
وَما حَسَبَت ضَمرِيَّةٌ جَدَوِيَّةٌ
-
-
- سِوى التَيسِ ذي القَرنَينِ أَنَّ لَها بَعلا
-
فَأَبلِغ لِيَ الذَفراءَ وَالجَهلُ كَاِسمِهِ
-
-
- وَمَن يَغوِ لا يَعدَم عَلى غِيِّهِ عَذلا
-
قصيدة: بأبي وأمي أنت من مظلومة
وهنا يقول كثير عزة:[٦]
بِأَبي وَأُمّي أَنتِ مِن مَظلومَةٍ
-
-
- طَبِنَ العَدُوُّ لَها فَغَيَّرَ حالَها
-
لَو أَنَّ عَزَّةَ خاص َمَت شَمسَ الضُحى
-
-
- في الحُسنِ عِندَ مُوَفَّقٍ لَقَضى لَها
-
وَسَعى إِلَيَّ بِصَرمِ عَزَّةَ نِسوَةٌ
-
-
- جَعَلَ المَليكُ خُدودَهُنَّ نِعالَه
-
المراجع
- ↑ مشاعر جبارة، الغزل العذري عند كثير عزة، صفحة 64. بتصرّف.
- ↑ زكي مبارك، العشاق الثلاثة، صفحة 00. بتصرّف.
- ↑ “سراج الدجى صفر الحشا منتهى المنى”، الديوان ، اطّلع عليه بتاريخ 2/2/2022. بتصرّف.
- ↑ “وإني لأسمو بالوصال إلى التي”، الديوان ، اطّلع عليه بتاريخ 2/2/2022. بتصرّف.
- ↑ “سقى دمنتين لم نجد لهما مثلا”، الديوان ، اطّلع عليه بتاريخ 2/2/2022. بتصرّف.
- ↑ “بأبي وأمي أنت من مظلومة”، الديوان ، اطّلع عليه بتاريخ 2/2/2022. بتصرّف.