موقع اقرا » الآداب » مفاهيم ومصطلحات أدبية » قضية الصدق والكذب في الشعر

قضية الصدق والكذب في الشعر

قضية الصدق والكذب في الشعر


مفهوم النقد

يُمكنُ القولُ إنّ النقد هو الأساسُ الحقيقيُّ الذي من خلاله يُؤَرَّخُ للأدبِ، ويفرزُ غثَّهُ عن سمينه، ويفرِّقُ بين جيِّدِهِ ورديئه، فهو: “اختبارُ الشيءِ وتمييزُ جيّدِهِ من رديئِهِ، ويوظَّفُ في التمييز بين الأنواع الأدبية النثرية منها والشعريّة على حدٍّ سواء، وتمييز جيِّدِها من رديئِها، وتمييز ما فيها من عيبٍ أو حسن”؛ فالنقد هو الأساسُ العلمي الناتجُ إثرَ النصِّ، حيثُ تتمثّلُ وظيفةُ النقدِ في تشريحِ النصِّ الأدبي؛ سواءٌ أكانَ شِعرًا أم نثرًا، حيثُ يقومُ الناقدُ بتفسير العمل الأدبيّ للقارئِ وتحليلِهِ ومعرفة مكامن القوة والضعفِ فيه وتجليتها، ومساعدته على فهمه وتذوقه، عن طريق ما يمكن تسميته النظرية الأدبيّة؛ وهي “النقاشُ الفلسفيُّ لطرق النقد الأدبيّ وأهدافه”، وقد بدأ النقدُ انطباعيًّا عن طريقِ الأسواق الأدبية؛ كما ظهرت العديدُ من القضايا النقدية التي أثارها أهلُ النقد، مما التبسَ عليه في تلقّيهم للإبداع العربي؛ كقضية اللفظ والمعنى، وقضية السرقات الشعريّة، وفصّلوا لها ولأنواعها ومصطلحاتها؛ وقضية عمود الشعر العربيّ، وقضية الصدق والكذب.[١]

النقد الأدبي القديم

يسعى النقدُ، بطبيعةِ الحالِ، إلى الكشفِ عن مكنونات النّصوص الأدبيّة، المتوزِّعةِ في جوانبَ أسلوبيةٍ متعددة: لُغويّة، وتركيبيّة، وبلاغيّة، وإيقاعيّة؛ وقد حظيَ الأدبُ العربيّ، منذُ العصرِ الجاهليِّ حتى العصور المتأخّرة، باهتمام النقّاد، وَفق اختلاف مستوياتهم النقدية والفكرية والانطباعية؛ فلم يتعَدَّ النقد في العصرِ الجاهليِّ الجوانبَ الانطباعيّةَ البسيطةَ؛ إذ لم يمتَزْ بمنهجيّة محددةٍ، تجعلُ منه أساسًا مفصليًّا في تحقيق غايةِ النقدِ المنهجيّ الدقيق. أما في عصر صدر الإسلام، فقد اختلفَتِ الوجهةُ النقديّة، وصارت أكثرَ تخصُّصًا وموضوعيّة، لكنه ارتبط بالجوانب الأخلاقية والدينية، بسبب طبيعة المرحلة، التي اتسمت بنشر الإسلام وانشغال المسلمين بالفتوحات الإسلامية. أمّا في العصر الأموي: عصر جمع التراث وتدوينه في الكتب والمؤلفات؛ حيث وصل النقدُ إلى ذروته المنهجية ، وأصبحت له أصولُه ومبادئهُ ومؤلفاته التي تناولت العديدَ من القضايا النقدية[٢]، بأسلوب يستندُ إلى العلمية والتحليل والوصف والاستنباط؛ فكَثُرَ الشعراءُ، وتعددت البيئات الأدبية، وظهرت العصبيّة القبليّة في مجال النقد[٣]. ومع هذا، فقد كان القرنان: الثالث والرابعُ على وجه الخصوص، هما القرنين اللذين شكلا نقطةً فارقةً في وجهة النقد الأدبي وتحديد ملامحه.

مفهوم الصدق والكذب عند النقاد

بطبيعةِ الحال، فإنَّ الصّدقَ إذا كان يعني -من وجهةٍ ما- الدقَّةَ في التعبيرِ، والابتعادَ عن الخيالِ، وملاءمةَ الواقعِ، فإنه في الأدبِ، على وجهِ الخصوصِ، يحملُ في توجُّههِ مضامينَ الدقةِ في التعبيرِ الصادقِ عن الانفعالاتِ، والقدرةَ على رَصدِ الواقعِ في الأدبِ بعيدًا عن التزييفِ في المشاعرِ، أو التزييفِ في الواقعِ الموصوفِ في الأدب؛ نثرًا كانَ أمْ شِعرًا؛ ولا أدلَّ على ذلكَ من قولِ حسّان بنِ ثابتٍ في وصفه الشعرَ في أنّه انعكاسٌ حقيقيٌّ لمشاعرِ الإنسانِ، وفيه تتجلّى كِياستُهُ من حُمقِهِ؛ إذ يقول:

“وإنَّما الشِّعـْرُ لُبُّ المَرْءِ يَعرِضُهُ ** على المجالسِ إنْ كَيْسًا وإنْ حُمُقا

وإنَّ أشعَرَ بيتٍ أنتَ قائلُهُ ** بيتٌ يُقالُ إذا أنشَدْتَهُ صَدَقا”[٤]

وهو -في هذين البيتَيْنِ- يُشيرُ بشكلٍ واضحٍ إلى أهميّةِ المنطوقِ في الحُكمِ على الناطقِ؛ حيثُ يقاسُ، إثْرَ ذلكَ، المدى الأعمقُ للشاعرية والعبقريَّةِ الشّعريةِ في تحرّي الصّدقِ في التَّعبيرِ الشّعريّ. وقد دعا الكثيرُ من النّقّاد إلى اتّباع الصدقِ في الكتابة الأدبية: في الشِّعرِ والنَّثرِ؛ حيثُ يقولُ ابنُ طباطبا (ت322هـ) في تِبيانِ عِلَّةِ حُسْنِ الشِّعرِ والإعلاءِ من مكانتِهِ: “ما يعلمُ السّامع له إلى أيِّ معنى يُساقُ القولُ فيهِ قبلَ معناه من التّصريحِ الظّاهرِ الذي لا سِترَ دونَه”[٥]. وهو، بذلك، يؤكِّدُ ما أوردَهُ حسّانُ بنُ ثابتٍ في البيتينِ السّابقَيْنِ. وربَّما أن العصر الجاهليَّ، في سياقه الأدبيّ، لم يغفلْ هذه القضيةَ؛ فقد أولى الصدقَ اهتمامَه؛ حيثُ كانوا يعيبون على من يكذبُ في شعره، ويسمّونه الادّعاء؛ فقد “عابت العربُ المهلهلَ بنَ ربيعةَ؛ لكذبه وتزيُّدِه في القول، وقالوا عنه: “كان يدّعي في شِعره، ويتكَثَّرُ في قولِه أكثرَ من فِعلِه”[٦].

وقد كان هناك الكثيرُ من النُّقّاد الذين اتّبعوا رأيَ ابنِ طباطبا؛ من أهمّهم الآمديُّ (ت631هـ)؛ إذ إنّه “رفضَ مقولةَ “أعذبُ الشّعرِ أكذبُه”، رادًّا عليهم بقوله: يقولون أجودُ الشِّعرِ أكذبُه، ولا واللهِ، ما أجودُه إلا أصدقُه”[٧]. وبهذا، فإن المُطّلعَ على هذه الآراءِ، وغيرها الكثير، يجدُ أنها تربطُ قضيةَ الصّدق بالجانبَين: الأخلاقيّ والدينيّ؛ هذه الأدلَجةُ التي اكتنَفَتِ الحركةَ النقديّة، عبر العصور، لم تكن تُغفلُ بأي شكل من الأشكال هذيْنِ الجانبَيْن؛ لأهميَّتهما، ولطبيعة التفكير العامِّ الذي كان يحيطُ بالعقلِ العربيّ، آنذاك، خصوصًا؛ إذ يحكمون على النّتاج الثقافي الإبداعيّ من خلال مُبدعِه وأفُقِهِ الأخلاقيّ؛ وربّما كان لهذا الأمرِ دورٌ كبيرٌ في توجيه الآراء النقديةِ نحو وضع قضيّة إشكاليّة كُبرى تحت عُنوان: الصّدق والكذب في الشِّعرِ.

قضية الصدق والكذب في الشعر

من خلالِ المُنطلَقاتِ المذكورةِ في تحديدِ ماهيّةِ الصدقِ عند النقّاد؛ فإنه، بطبيعةِ الحالِ، يتمخّضُ عن ذلك فئاتٌ من النقادِ كانوا يَنْحون في رؤاهم النقديةِ مناحيَ مختلفةً في تناولهم للشعر نقديًّا، من أهمِّها[٨]:

  • فئةٌ تفَضِّلُ الكذبَ على الصّدقِ، وهم الذين يفضِّلون اللفظَ على المعنى؛ أي مدرسة الصّنعةِ.
  • فئةٌ تطلبُ الصدقَ والحقيقةَ، مع رفضها للكذبِ، وهم مدرسةُ العقل؛ التي تفضِّلُ المعنى على اللفظِ.
  • فئةٌ متوسّطةٌ معتدلةٌ؛ ترى أنَّ الصدقَ والكذبَ ليسا في مجالِ الشِّعرِ.
  • فئةٌ رافضةٌ للشعر بعامّةٍ؛ من واقعِ رؤيتِها له على أنّه كذبٌ يُفسِدُ الأخلاقَ.

من خلال الاطّلاع على هذه الفئات، يمكنُ الخروجُ برأيٍ تتضّحُ من خلاله أن قضية الصدقِ والكذب اكتَنَفَتْها الآراء المؤدلجةُ التي تحكمُ على الشعرِ من انطباعاتٍ يتضمّنُها في شكله أو مضمونه، مع أن الفئةَ المتوسطةَ المُشارَ إليها في النقطةِ الثالثةِ كانت أكثرَ عدلاً، بالضرورة، في النظرِ إلى الشعرِ؛ إلى ماهيّتِهِ، بعبارةٍ أدقَّ؛ إذ إنّها أزاحتْ فكرةَ الصدقِ والكذبِ عن الشعر؛ فهو في الحقيقةِ يقومُ على الخيالِ والمجازِ الذي قد ينافي، بنظرةٍ سطحيّةٍ له، المنطقَ الأخلاقي في الحكمِ على الشّعر من خلال حُكْمَيِ الصدق والكذب. إلا أنّ الشعرَ ينحو جانبًا عن هذه الأحكامِ التي تتناوله من خارجه، لا من بنيته الداخلية، التي يمكنُ أن نحكمَ عليها في سياق أدبيٍّ بحتٍ غيرِ مأخوذٍ ولا خاضعٍ لأحكامٍ مُسبَقةٍ تنفي شعريّته، كما يتضجُ في النقطة الرابعةِ، عند تلك الفئةِ التي ترى الشعرَ مفسدةً للأخلاقِ برُمّتها، فهي ترفضُه جُملةً وتفصيلاً! حتى إنَّ النقّادَ صاروا في سياقٍ موازٍ يبحثون في أصدقِ بيتٍ وأكذبِ بيتٍ، ويحكمونَ على ذلك من انطباعاتٍ ذاتيّة، في قياس تلك الأبياتِ من مدى مطابقتها للواقعِ أو مخالفتها له، غافلين عن قضية مهمة ألا وهي قضية “التخييل”؛ فالشعر يقوم على التخييل، ولو كان الحكم على الشعر من خلال معيارَي: الصدق والكذب؛ لكان الشعر كله كذبًا؛ كونه لا يقوم على رسم الواقع كما هو، أو كما كان عليه؛ إنهم مثلاً يصفون بيتَ الأعشى ميمون بن قيس بأنه أكذبُ بيتٍ؛ إذ يقول:

لو أسنَدْتَ ميتًا إلى نَحرِها ** عاشَ ولم يُنقَلْ إلى قابِرِ[٩]

فقد نسبَ النقادُ كذبَ البيتِ إلى مغالاته؛ و”المغالاة” إحدى التسميات المرادفة لمصطلح “الكذب”؛ تتجلى هذه المغالاة في جَعْلِ نحرِ المحبوبة مكانًا أسطوريًّا تنتهي فيه قيمةُ الموتِ والقبرِ؛ فهي الملاذُ الحقيقيّ المانحُ للحياةِ، رغم الموتِ الذي حدث مسبقًا؛ لكنْ، ومن وجهةِ نظرٍ أخرى، ألا يمكن أنْ يكونَ هذا التصويرُ بذخًا شِعريًّا عاليًا في تصوير المحبةِ للمحبوبةِ من قِبَلِ الشاعرِ، وقدرةً استثنائيةً لديه في خلقِ عالم من المجاز، ليرسمَ من خلاله، صورةَ المحبة التي تختلج في ذاته؟! وبهذا، تنتفي قضية الكذب عن هذا البيتِ وغيرِه من الأبياتِ. بل إن النقادَ غالَوْا في إطلاق هذه الأحكام النقدية، فربّما، من وجهةِ نظرهم، احتوى البيت الواحد على أصدقِ شطرٍ وأكذب شطرٍ! من ذلك قول لبيد بن ربيعةِ، في بيته الشعريّ المشهور:

ألا كُلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ ** وكُلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ[١٠]

“إذ يروي لنا أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “أصدق كلمة قالها شاعر، كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ” ولمن لا يعرف، فإن معنى ما خلا: أي ما سوى، ذلك التعليق النبوي جاء على إثر موقفٍ يرويه المؤرخون، وهو أن القريحة الشعرية للبيدٍ تحرّكت عند سماعِه بوفاة ملك الحيرة النعمان بن المنذر، فأنشدَ قصيدةً صادقة المشاعر مليئةً بالجواهر، ويوم أشرقت شمسُ الإسلام في سنواتِه الأولى، صادفَ أن مرّ عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- على لبيدٍ وهو يُلقي بقصيدتِه تلك، وكان فيها قولُه: “ألا كل شيء ما خلا الله باطل” فقال عثمان: صدقت، ثم قال لبيد الشطرَ الثاني من البيت: “وكل نعيم لا محالة زائل”، وهنا تعقب عثمان -رضي الله عنه- لبيدًا، فقال له: “كذبت، نعيم الجنة لا يزول”.[١١]

في الحقيقةِ، فالحُكمُ هنا منبعُهُ -مثلما وردَ سابقًا- مبنيٌّ على جانب دينيّ، سبقَ الشعرَ لحظةَ نُطقِه؛ فأوردَ مستمِعَهُ إلى الحُكم بصدقِ قول الشاعرِ، حين قال: “ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلُ”؛ لأنّه موافق للمنظومةِ الدينيّة، التي احتكمَ إليها الشعرُ والشاعرُ في آنٍ معًا؛ إلا أنه في الشطرِ الأخير من البيتِ الشعريّ: “وكُلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ” حكمَ المستمع بكذب الشطرِ، لأنّه، في انطباعه الدينيّ المسبقِ، يخالفُ المنظومة العَقديّة. حتى إن فقهاءَ الأمّة، حين يذكرون هذا البيتَ الشعريَّ فإنّهم يذكرونه شطرًا لا بيتًا، أيْ أنهم يذكرون ما وافقَ العقيدةَ، بوصفِهِ “أصدقَ شطرٍ” وينكرون شطرَه الأخيرَ بوصفه “أكذبَ شطر”؛ فابنُ تيمية يقول في مَعرِضِ استشهاده بالشطر الشعري: “المنفي في كلمة الإخلاص هي الطواغيت والأصنام وكل ما عُبد من دون الله، وكلها باطلة بلا ريب، كما قال لبيد في شعره الذي سمعه منه النبي -صلى الله عليه وسلم-: ألا كل شيء ما خلا الله باطل”[١٢]

لعلَّ أمرَ تصنيفِ الشعرِ وفق منظورَيِ الصدقِ والكذبِ يجعلُ المطَّلِعَ: ناقدًا أم قارئًا، يقعُ في إشكاليّةِ العِلّةِ؛ وهذا، في الحقيقةِ، ما دفعَ النقّادَ إلى تقسيمِ الصدقِ قِسمَيْن، فضلًا عن أنهم قسّموا “الكذبَ في الشعرِ” إلى قِسْمَيْنِ كذلك، وتفصيل ذلك تاليًا.

الصدق الأخلاقي

“والمقصود بهذا النوع من الصدق ذلك الشعر الذي يسعى إلى التعبير عن الوقائع بلغة صادقة لا تزييف فيها ولا تحريف للأشياء كما هي في حد ذاتها؛ وهذا يستدعي من الشاعر تنظيم قوله وفق معايير مضبوطة ومغايرة في الآن نفسه للكلام الشعري الذي يجنح فيه بعض الشعراء إلى الاتساع في القول وركوب الغلو والمبالغة ودخول غمار التناقض والاستحالة. فهو قول بتعبير القرطاجني مطابق للمعنى على ما وقع في الوجود”[١٣]. وتكمُنُ الأخلاقية المقصودةُ بالصدق هنا، كما يتضح في الكلام المُقتَبَسِ في واقعية الوصفِ والرصفِ الشعريّ، دونَ زيادةٍ أو نقصان؛ أي تصوير الواقعِ بحَرفيّةٍ دون مواربَةٍ؛ وهذا، بطبيعةِ الحالِ، صحيحٌ أن يمنحُ الشعرَ صفةَ الصدقِ، لكنه يتنافى مع بنائيته القائمةِ على المُحاكاةِ والتخييلِ، فما الشعرُ لولا المجازُ؟ وما الشعرُ لولا الخيالُ؟.

الصدق الفنيّ

إنَّ الشعرَ “أحد فنون القول، لا يدخل إلى نفوسنا إذا لم يكن صادقًا مستندًا إلى تجربة يهتزّ لها ضمير الإنسان.”[١٤]. وفي هذا القسم الذي وضعه النقاد للصدق في الشعر، تتجلّى قيمة الصّدق ومعيار اعتباره بمدى تعبيره عن الانفعالات الشعورية، ومدى ملامسة الشعر لواقعية الشعور وليس لواقع الشاعر المحيط به؛ فكلما انسجمنا مع القصيدة بصُوّرِها وتشكلاتها الفنيّة تكونُ هذه القصيدةُ أصدقَ فنيًّا. وربّما يكونُ هذا الفرعُ من الصدقِ أقربَ إلى توصيف ماهيّة الشعر؛ إمّا كان لزامًا تصنيفُه وَفقَ معيارَيِ: الصدق والكذب.

الكذب الفنيّ

المقصودُ به مخالفةُ التصويرِ الشعريّ للواقع، ورسمه صورةً تتنافى مع الطبيعة الحقيقيّة لما أرادَ الشاعرُ وصفَه. وبهذا، فإن الشعر يتسمُ بالكذبِ الفنّي، حين يتّسمُ بمخالفةِ الواقعِ. ولكنْ، قد يتبادرُ إلى ذهنِ المتلقّي سؤالٌ: لماذا لم يعُدَّ النقادُ “الكذب الأخلاقيّ” ضمنَ تقسيماتهم، كما عدّوها في تقسيمهم للصدق؟ إنَّ إغفالَ النقاد لهذه الفرعيّةِ لَيومئ، بشكل أو بآخر، إلى سطحية تلك التقسيمات وعدم دقتها في وصفِ الشعرِ وتقييمه؛ وهذا، في حقيقةِ الأمر، ما يجعل القارئَ يقول: ما دامَ الشعرُ يقومُ على الخيالِ، والخيالُ منافاةٌ للواقعِ بالضرورة، فهذا يعني أن الشعرَ كُلَّهُ كذبٌ، وهو أمرٌ غيرُ منطقيٍّ؛ فيتساءل القارئُ نفسُهُ حينها: لماذا لا تنتفي هذه التقييمات المعيارية التي لها مجالاتها الحُكميّةُ الأخرى، بعيدًا عن جانبٍ إبداعيٍّ لا قِبَلَ له بأن يُحتَكَرَ داخلَ بوتقةِ الصدقِ والكذبِ، وَفقَ الرؤى التي ابتدَعها النقّادُ في ذلك! وهذا، إن جاز التعبيرُ، ليسَ تحديدًا لحُكمٍ نقديٍّ مُطلَقٍ تجاه قضيةٍ الصدقِ والكذب، وإنما هو محاورةٌ ونقاشٌ لمن أثاروا هذه القضيّة؛ حيثُ إنَّ القضيةَ في الاصطلاح،: الموضوع الذي يحتملُ النقاشَ والأخذَ والعطاءَ.

الكذبُ الإيهامي

هو الكذبُ الذي يختبئُ فيه الشاعرِ خلفَ صورةٍ بعيدةِ المنالِ؛ حيثُ “يَحتمي فيه الشاعر بالإيهام والإغراق والتهويل في القول لإيصال رسالته، والذي يوقعنا في كمين معنى غير المراد منه. وهو أسلوب مردّه إلى إضمار المعنى الشعري بقول مغاير للحقيقة والواقع. وقد تمّت مناقشة هذا الموضوع وفق رؤى متباينة دفعت مجموعة من النّقاد إلى رفض هذا النوع، بل ذهب بعضهم إلى وصفه بالشّناعة والخساسة والقبح”[١٥]. إن النقادَ يطمحونَ إلى قصيدةٍ “خاليةٍ” من الكذبِ بنوعَيه: الفني والإيهاميّ؛ وإن كانَ فإنه يتجلّى دونَ غُلوٍّ أو إفراطٍ أو تفريطٍ أو استحالةٍ؛ وهذا يمنحُ الشعرَ منطقيّته المفهومية المستوعَبَةَ؛ بحيثُ يمكنُ للمتلقي: قارئًا أم ناقدًا، أن يمنحَ المقبوليةَ للقصيدة المُتَلَقّاةِ، إذا اكتسبت العناصرَ والمقوِّماتِ التي تمنحها تلكَ الصفةَ.

لقد شغَلَتْ قضيةُ الصدقِ والكذب في الأدب العربيِّ عمومًا، وفي الشعر العربيّ، على وجه الخصوص، بالَ النقّادِ؛ فأفردوا لها الكتبَ والمجلّداتِ والنقاشاتِ الحادّةَ، بين مؤيدٍ لها وبين معارضٍ، وبين من يقول: “أعذبُ الشعرِ أكذبُه” أو “أجملُ الشعر أصدقُه”، فقد “صار الكذب مقياس الأدبية، مادام متفقاً مع المثال التقليدي، وبات الصدق مرفوضًا، ما دام يخالف ذاك المثال”[١٦] وبين هذه وتلك تناوشتِ الشعرَ العديدُ من الإشكاليّاتِ؛ إن وظيفةَ الشاعرِ هي رسمُ الواقعِ المعيشِ، سواءٌ أكان فرديًّا أم جمعيًّا، بصورةٍ يتقبلها المتلقي، محفوفةٍ بالمجازٍ الذي يمنحُ القصيدةَ دهشتَها، فالشعرُ في إحدى تعريفاتِه، ليس كلامًا موزونًا مُقفّى، كما وردَ في تعريف الشعر في الاصطلاح النقديّ القديمِ حَسْبُ، إنما هو كذلك الدهشة، أو قدرة الشاعر والشعر على صناعة الدهشة في آنٍ معًا.

وليس من الضروريّ “أن يكون الشاعرُ قد عانى التجربةَ بنفسه حتى يصفَها، بل يكفي أن يكون قد لاحظها، وعرف بفكره عناصرَها، وآمَنَ بها”[١٧] وبهذا فإنه لا بدَّ للشاعرِ من أدواتٍ محددة، كالثقافة والكفاءة والمعرفة والبراعة والموهبة في نظم الشعر، وربما اكتنفتْ هذه السماتِ بعضُ المبالغاتِ التي تجنحُ إليها الصورةُ الشعريّةُ، من خلال استخدام العناصر البلاغية المتعددة؛ كالكنايةِ والتشبيه والاستعارة والتورية وغيرها من الطرائق البلاغية والبيانية، وهذه الطرائق هي ذاتها التي قد توهمُ الناقدَ، حال وجودها في القصيدةِ بأن الشاعرَ قد وقَعَ في شَرَكِ الكذبِ، وما “الكذبُ” في منظور النقادِ سوى محاولة إلى إلباسِ القصيدة ثوبَ الخيالِ ومحاولة الشاعر التخييلَ من خلال توظيف العناصر الأسلوبية المتعددة؛ يمكن للمتلقي الاستعاضةَ، إذًا، عن مصطلح الكذب، باستخدامه لمصطلح: “الغموض”، أو “المغالاة”، أو “المبالغة”، أو “الإبهام” في بعض ما يُغلَقُ من المعاني والدلالات الشعرية؛ وإذا استطاع المتلقي أن يصلَ إلى دلالات القصيدةِ، ومن ثَمَّ استطاعَ فكَّ شِفراتها؛ مع أنها توظِّفُ الأساليبَ البلاغية المذكورةَ، فإنه بذلك قد منح القصيدة صفةَ الصدقِ، الصدقِ الفنيّ، بمعنى أدقّ.

وبهذا، فإن المعيارَ الحقيقيَّ في تحديدِ صفةِ “الصدقِ أو الكذب” في الشعر، إن تمَّ اعتماد هذه النظرةِ معيارًا نقديًّا للقصيدةِ، ينبني على مدى الاتساعِ الثقافي والمعرفي لدى المتلقي؛ فالشعرُ العربيُّ، بيتٌ واسعُ الأركانِ، متعدِّدُ الشُّرُفاتِ، ذو سياقاتٍ عديدةٍ، ينبني، في أساسِه، على المجاز، ليُعَبِّرَ فيه الشاعرُ عن الواقعِ، لكنْ بصورةٍ أعلى من المرئيِّ، وأعمقَ من المحسوسِ. ولِيَعـْبُرَ إلى مُدنِ الخيال؛ يُحَقِّقُ طُموحًا غائبًا أو مُغَيَّبًا. وليسَ من المنطقي أنّ كلَّ نصٍّ أدبيٍّ يُقرأ ولا يُفهم، أو لا يصل إلى قارئه يوسَمُ بالكذب، وأن كلَّ نص يصل إلى ذهن متلقيه يُوسَمُ بالصدق؛ فما دام المعيار الإدراكي والثقافي والمعرفي متاحًا في فهم اكتناهات النص الأدبي، فإنه سيكون مجالًا رحبًا وأكثرَ “صدقًا” في الحكم على الشعر؛ فإن ضاقَ الأفق ضاقَ المعنى، وإن اتسعَ الأفق اتسع المعنى.

المراجع[+]

  1. “تعريف النقد”، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-25. بتصرّف.
  2. ويكيبيديا، “نقد أدبي”، ar.wikipedia.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21. بتصرّف.
  3. آلاء أبو حديد، “النقد في العصر الأموي”، موقع اقرا.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-21. بتصرّف.
  4. حسان بن ثابت، “حسان بن ثابت”، www.aldiwan.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-18.
  5. حسين صالح (2013-07-01)، “الصدق والكذب قراءة أخرى”، سر من رأى، العدد 34، المجلد 9، صفحة 240.
  6. وليد قصاب، “من ملامح الصدق النفسي في النقد العربي”، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-18.
  7. نوح أحمد عبكل، المصطلح النقدي والبلاغي عند الآمدي في كتابة الموازنة بين أبي تمام والبحتري، صفحة 88. بتصرّف.
  8. الجوهرة بنت بخيت آل جهجاه (2012-03-01)، “تجليات التشكيل النقدي لنظرية الصدق في النقد العربي القديم”، مجلة جامعة المدينة العالمية المحكمة، العدد 2، صفحة 12.
  9. الأعشى، “شاقتك من قتلة أطلالها”، www.adab.com، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19.
  10. إسلام ويب، “تأملات في أصدق شعر الجاهلية”، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19.
  11. إسلام ويب، “تأملات في أصدق شعر الجاهلية”، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19.
  12. عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، “إعراب لا إله إلا الله”، al-maktaba.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19.
  13. خالد هلالي (2019-05-14)، “إشكالية الصدق والكذب في الشعر العربي بين الأخلاقي والفني”، جيل الدراسات الأدبية والفكرية، العدد 51، صفحة 85.
  14. “الصدق الفني ورفض الكذب”، art.uobabylon.edu.iq، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19.
  15. خالد هلالي (2019-05-14)، “إشكالية الصدق والكذب في الشعر العربي بين الأخلاقي والفني”، جيل الدراسات الأدبية والفكرية، العدد 51، صفحة 85.
  16. وحيد صبحي كبابة، “الصدق والكذب بين أبي تمام والبحتري”، almerja.net، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19.
  17. “التجربة الشعرية بين الصدق الفني وصدق الواقع”، books.google.jo، اطّلع عليه بتاريخ 2020-06-19.






اللهم اجعلنا ممن ينشرون العلم ويعملون به واجعله حجه لنا لا علينا

تصميم وبرمجة شركة الفنون لحلول الويب