موقع اقرا » الآداب » مفاهيم ومصطلحات أدبية » الأدب في العصر العباسي

الأدب في العصر العباسي

الأدب في العصر العباسي


الحياة الأدبية في العصر العباسي

كيف أثرت الأحداث السياسية للعصر العباسي على الأدب؟

بُنيتْ الدولة العباسيّة على أنقاض الدّولة الأمويّة، فأصبحتْ عاصمتها بغداد بدلًا من دمشق التي كانت عاصمة الدولة الأموية، كما غلب على الحكم في هذه الدولة الطابع الفارسي فكثر فيها الفرس، ومما امتازت به أواخر أيامها التفكك والانقسامات؛ فقد انقسمتْ الدّولة العباسيّة إلى دويلات عديدة، وعلى المستوى الاجتماعي قد ظهرتْ طبقتان من الناس، طبقة مترفة غنية، وطبقة فقيرة معدمة، وانتشر المجون والانحلال والزندقة؛ وذلك بسبب اختلاط العرب مع مَنْ جاورهم ممن هم ليسوا عربًا، كما انتشر اللهو واللعب، وازداد العمران والبناء.[١]

أمّا بالنسبة للثقافة فقد انتشر العلم والتعليم كثيرًا، فاهتم علماء هذا العصر بدراسة اللغة العربية وتعلُّم علومها، ومن شدة اهتمامهم باللغة العربيّة كان لا يتولّى المناصب العليا في الدّولة إلا ذوو العلمِ والدراية بعلوم اللغة العربية، كما ظهرت طائفةٌ من العلماء ممّن اهتموا بدراسة العلوم الدينية، كما نشطت الحياة الأدبيّة نشاطًا كبيرًا، فكثُرَ الأدباء والكتّاب والشّعراء وصار المرء يستطيع تمييز مدارس أدبية كثير ترتكز كلّ واحدة منها على ثقافة معيّنة، ولكن كلّ ذلك كان يصبّ في إثراء الثقافة العربية وزيادة المفاهيم فيها، فأسهم ذلك في ولادة شعرٍ جديدٍ يحمل سمات الدولة الجديدة التي كان من عوامل ازدهار الأدب فيها تشجيع الحكّام له.[٢]

الشعر في العصر العباسي

ما هي اتجاهات الشعر في العصر العباسي؟

لقد ازدهر الشّعر في العصر العبّاسي، وخاص ة بسبب ما كان يمنحه الخلفاء العباسيون للشّعراء وتشجيعهم على ابتكار الجديد والإتيان بالمعاني الفريدة، وأيضًا بسبب ما كان يلاقي أكثر الشعراء من حياة الترف في أحضان البلاط الحاكم وما يتبعه من صلات مالية أو من الجواري ونحو ذلك، وأيضًا بسبب الثقافة الهائلة التي دخلت هذا العصر من خلال انفتاح العرب على ثقافات الأمم الأخرى، فأدّى ذلك إلى تولّد اتجاهات للشعر في هذا العصر.[٣]

لقراءة المزيد، انظر هنا: الشعر في العصر العباسي.

اتجاهات الشعر في العصر العباسي

لقد انقسم الشّعراء العباسيون بحسب أشعارهم والسّمات التي اتّسمت بها إلى قسمين رئيسين هما:

الاتجاه القديم

وهو الاتّجاه الذي سار أدباؤه على طريق من سبقهم من الشّعراء الجاهليين والإسلاميين، فالتزموا في أشعارهم جميع ما جاء إليهم ممن سبقهم كعمود القصيدة ومعانيها وألفاظها وحتى البحور التي أكثرَ مَن سبقهم مِن استعمالها.[٤]

الاتجاه الجديد

وهذا الاتجاه قد بناه أنصار التجديد، فابتدعوا أوزانًا وأغراضًا وصورًا ومناهجَ خاصةً بهم، وفيما يأتي وقفة مع أهم مظاهر التجديد التي قد جاء بها أنصار المذهب الجديد.[٤]

مظاهر التجديد في العصر العباسي

إن التغييرات التي طرأتْ على الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، وتداخل العرب بغيرهم بسبب اتساع رقعة الدولة العباسية كان له أثرٌ كبيرٌ في ظهور تيارٍ جديدٍ خاص بهذه التطورات؛ إذ كان الشعراء يتقبلون هذا التطور ويتجاوبون معه، فكل هذه الأمور قد جعلت من مميزات الأدب العباسي شيئًا خاص ًّا به، وقد تمثل التجديد في مظاهرَ عدة وهي:[٥]

التجديد في الأغراض القديمة

لقد تعددتْ أغراض الشعر في العصر العباسي، فتناول الشعراء الأغراض القديمة للشعر الجاهلي وما تلاه إلى ما قبل العصر العباسي، ولكن أضافوا عليها متممين لها لا مغيرين لما جاء فيها، فمما طاله التغيير شعر المدح، فقد كان المديح للشخص في العصر الجاهلي -مثلًا- يكون بذكر الخصال الحميدة برأي الجماعة ونسبها لذلك الشخص، أمّا في العصر العباسي فقد لجأ الشاعر إلى تصويرها تصويرًا حسيًا، فيمده الشاعر من خصوبة عقله ليجعل منه مثالًا يحتذى ويعتد به الجميع، وبمدحهم للخليفة جعلوا منه طائعًا لله عادلًا في خلقه متبعًا لشرعه، وهذا ما جاء في قول أبي العتاهية في هارون الرشيد:[٥]

وراعٍ يراعي الله في حفظِ أمةٍ

يدافع عنها الشّر غير رقود

تجافى عن الدّنيا وأيقن أنها

مفارقةً ليستْ بدار خلود

ممّا بقي من أشعار الجاهليّة في الشعر العباسي حديث الأطلال، إلا أنهم استخدموها رمزًا، فالأطلال ترمز إلى حبهم المنقضي، ورحلة الصحراء ترمز إلى رحلة الإنسان في هذه الحياة، ومن ذلك قول مسلم بن الوليد:[٦]

هلّا بكيتَ ظعائنًا وحمولا

ترك الفؤاد فراقهم مخبولا

فإذا زجرتُ القلبَ زادَ وجبُه

وإذا حسبتُ الدّمع زاد همولا

كذلك كان هناك بعض الشعراء الذين قد تحولوا عن وصف الأطلال الدارسة إلى الأطلال الحاضرة، ومن طريق الصحراء إلى وصف الرياض، وأمّا شعر الهجاء، فقد تطور تطورًا شديدًا؛ وذلك لاتصاله بحياة الناس ولوجود التنافس بين الشعراء؛ فقد كانوا يتوجهون إلى الشخص بالنقد بصورة تفصيلية بحيث لا يتركون شيئًا من مساوئه إلا وتحدثوا بها، وقد طال ذلك الهجاء الخلفاء أيضًا كما فعله دعبل الخزاعي، وقد كان هذا الهجاء مثل صحيفةٍ تحمل مجموعةٍ من الخصال التي يجب أن يبتعد عنا المرء، فهي مقابلةٌ للمديح الذي حمل بدوره الخصال التي يجب أن يتحلّى بها الإنسان، وممّا جاء في الهجاء قول بشار بن برد في هجاء ابن قزعة في بخله فيقول:[٧]

فلا تبخلا بخلَ ابن قزعة إنه

مخافة أن يرجى نداه حزينُ

إذا جئته للعُرف أغلق بابه

فلم تلقه إلّا وأنت كمينُ

أمّا التجديد في شعر الرثاء، فقد كان بتصوير صفات الميّت الحسنة تصويرًا دقيقًا، وذكر أنّها قد ذهبتْ من الدّنيا بذهابه، وذلك كقول مسلم بن الوليد في رثاء يزيد بن مزيد:[٥]

نفضتْ بك الآمالُ أحلاس الغنى

واسترجعتْ نزالها الأمصار

أجل تنافسه الحمام وحفرةُ

نقشتْ عليها وجهك الأحفار

فاذهبْ كما ذهبتْ غوادي مزنةٍ

أثنى عليها السهل والأوعارُ

أمّا شعر الغزل فقد تحوّل من غزلٍ عذري إلى غزلٍ صريحٍ ماجنٍ فاحشٍ، وذلك بسبب ما كان في العصر العباسي من بيوتٍ للهو ومن جارياتٍ يمتهنَّ الفحشَ، ممّا أدى إلى انتشار الخلاعة في ذلك العصر، وقد كان هناك الكثير ممّن ينكرون الدّين ويذهبون نحو هذا الفحش، مثل بشار وأبي نواس، كما ظهر الغزل بالغلمان، وهذا كلّه لم يكن موجودًا في العصور السابقة، ومنه قول أبي نواس يصف غلامًا:[٥]

يا ذا الذي يخطر في مشيته

قد صفّف الشّعر على جبهته

وسرّح المئزر من خلفه

ودقق البان على وفرته

مبتلٌ تثنيه أعطافه

أميس خلق الله في خطرته

مهفهفٌ ترتجُّ أردافه

يتيهُ بالحسن على جيرته

أمّا شعر الخمر فقد ازداد بسبب ازدياد دور الخمر والحوانيت، وازدياد شرب الخمر من مختلف الناس على اختلاف دياناتهم، وممّا جاء في ذكر الخمر قول مطيع بن إياس:[٥]

أخلع عذارك في الهوى

واشرب معتقة الدّنان

وصل القبيح مجاهرًا

فالعيش في وصل الغيان

لا يلهينك غير ما

تهوى فإنّ العمر فان

وأما شعر الزهد، فقد كثر وكان أقرب لحياة الناس من شعر الخمر، فقد كان معظمهم ملتزمين محافظين على أوامر الدّين، والجديد في هذا الشّعر هي مبادئ الشعر الصّوفي الذي يسمو بحياة الفرد نحو الأفضل، ومما جاء في الزهد ما قاله أبو العتاهية في توبة الإنسان عن ذنوبه إذ يقول:[٥]

إلهي لا تعذبني فإنّي       

مقرٌّ بالذي قد كان منّي

ومالي حيلةٌ إلا رجائي     

وعفوك إن عفوتَ وحسن ظني

فكم من زلةٍ لي في البرايا   

وأنت علي ذو فضلٍ ومنِّ

التجديد في منهج القصيدة

التجديد في المقدمة: لما كان الشاعر الجاهلي يبدأ بالوقوف على الأطلال ووصف الصحراء فإنّ هذا أمر طبيعيّ؛ إذ إنّه ابن هذه البيئة، ولكن كان من غير الطبيعي أن يبدأ الشّاعر العباسي بالوقوف على الأطلال، ولذلك فقد استمد الشاعر العباسي مقدمته من الحياة التي عاش فيها، فتجد أبي نواس قد بدأ بمقدمة خمرية يقول فيها:[٨]

دع الأطلال تسفيها الجَنوب     

وتُبلي عهدَ جدتها الخُطوبُ

وخلِّ لراكب الوجناء أرضًا      

تخبُ بها النجيبةُ والنجيبُ

فأطيب منه صافيةٌ شَمولٌ       

يطوف بكأسها ساقٍ أديبُ

ومن الشّعراء من بدأ قصائده بوصف القصور التي كانت موجودة في ذلك العصر، وذلك كقول محمد بن يسير قصر حزب:[٨]

ألا يا قصرُ قصرَ النوشجاني       

أرى بك بعد أهلك ما شجاني

فلو أعفي البلاء ديار قومٍ          

لفضلٍ منهم ولعُظْمِ شانِ

لما كانت تُرى بك بيّناتٍ            

تلوح عليك آثارُ الزمانِ

الصنعة الأسلوبية

لقد اتّسمَ أسلوب الشعراء العباسيين بأشعارهم بسماتٍ خاص ةٍ تُميّزه عما جاء في العصور التي سبقته، ففي العصر الجاهلي كانت الأشعار تلقى للبوح بمعنى معين، وهذا المعنى يصل إليه الشاعر دون تكلف أو مبالغة في اللفظ، بل بأسلوبٍ بسيط، فينشغل الشاعر بالمعنى دون اللفظ، وما يجيء من عنايةٍ في اللفظ فإنه يكون قد ورد عفوًا، أما شعراء العصر العباسي فقد وجدوا أنّ المعنى متاحٌ للجميع يستطيع من أراد أن يصل إليه، إنّما الصنعة تكون في تحسين اللفظ وتجميله ومن ذلك خرجت قضية اللفظ والمعنى إحدى قضايا النقد العربي القديم.[٩]

فعنوا باللفظ أكثر من المعنى، واستخدموا كل أنواع البديع ليصلوا بها إلى شعرٍ جميلٍ له لفظٌ منمقٌ، فامتلأت أشعارهم بشتى أنواع البديع، ومن أهم من ترأس هذا الاتجاه بشار وتبعه ابن هرمة وغيره، ويظهر ذلك في شعر مسلم بن الوليد في الغزل في قوله:[٩]

أجررتُ حبلَ خليعٍ في الصبا غزِلٍ      

وشمرتُ همم العذالِ في العَذَلِ

هاجَ البكاءُ على العين الطموحِ هوًى    

مُفرقٌ بين توديعٍ ومُحتَمَلِ

كيف السلو لقلبٍ راح مختبلًا             

يهذي بصاحبِ قلب غيرَ مختَبَلِ

وأمّا الأسلوب فقد انقسم قسمين، أسلوبٌ مزَجَ بين ليونة التجديد ورقته وبين جزالة القديم، وهذا ما يظهر عند الشّاعر أبي نواس في قوله:[٩]

وخمارٌ أنختُ إليه رحلي    

أناخه قاطنٌ والليل داجِ

فقلتُ له أسقني صهباء صرفًا    

إذا مُزجتْ توقد كالسراج

أمّا الأسلوب الثّاني فقد كان له ألفاظ رقيقة وتراكيب لينة، وهذه هي السمة العامة التي قد استقتها الأشعار العباسيّة من طبيعة الحياة التي كانت منتشرةً آنذاك، ويظهر هذا الأسلوب جليًّا عند أبي العتاهية في قوله في مدح المهدي:[٩]

أتتهُ الخلافة منقادًة    

إليه تجرّ أذيالها

ولم تكُ تصلُح إلّا له

ولم يكُ يصلُح إلا لها

ولو رامها أحدٌ غيرَه

لزُلزلَت الأرضُ زلزالها

التجديد في الأوزان والقوافي

أكثر الشّعراء من استخدام الأوزان المجزوءة وذلك تلبيةً لمتطلّبات العصر، فقد كان عصر لهوٍ ومرحٍ، وهذا على خلاف العصور السّابقة حيث استخدمت الأوزان الطويلة، وممّا جاء على هذه الأوزان المجزوءة قول مسلّم الخامر في مدح المهدي:[١٠]

موسى المَطَر غيثٌ بَكِر      

ثم انهمر ألوى المِرَر

كَم اعتَسَر ثُم اتسَر

وكَم قَدَر ثُم غَفَر

عَدلُ السِيَر باقي الأَثَر

خَيرٌ وَشَر نَفعٌ وَضَر

واخترعوا بعض الأوزان الجديدة التي لم تكن موجودة من قبل، وهذه البحور هي المقتضب والمضارع، ومن المقتضب قول أبي النواس:[١٠]

حاملُ الهوى تَعِبُ

يستخفّه الطربُ

إن بكى يُحَق لهُ

ليس ما بِهِ لَعِبُ

ومن المضارع قول أبي العتاهية:

أيا عُتْبَ ما يضر

كِ أن تطلقي صفادي

وقد حاول بعض الشّعراء أن يستنتجوا بعض البحور الشعرية الجديدة من الدّوائر العروضية، كما جاء في العكس من بعض البحور.[١٠]

أمّا فيما يتعلّق بالقافية فلقد كانت القافية في الشعر القديم واحدة في كلّ القصيدة، أمّا في العصر العبّاسي فقد ظهر نوعان للقافية، وهما المزدوج: وهي الأبيات التي لا تتّفق جميعها على نفس القافية، بل يتّفق شطرا كل بيت على القافية ذاتها، ومثالها ما جاء في منظومة أبان اللاحق حيث يقول:[١٠]

هذا كتابُ أدبٍ ومِحنة    

وهو الذي يدعى كليلة ودمنة

فيه دلالاتٌ وفيه رشدْ     

وهو كتابٌ وضعته الهندْ

والثاني هو المسمّط: وهو عبارة عن قصائد تتكوّن من أعمدة، كل عمود يتكوّن من أربعة أشطر أو خمسة، جمعها تتفق على نفس القافية إلّا الشّطر الأخير منها، ومنه خمرية لأبي نواس وهي من المسمطات المربعة حيث يقول:[١٠]

سلافُ دنّ

كشمسِ دجنِ

كدمع جفن

كخمر عدنِ

طبيخ شمسِ

كلونِ ورسِ

ربيب فرسِ

حليف سجنِ

يا مَن لحَاني

على زماني

اللهو شاني

فلا تلمني

تعدد اتجاهات الشعراء

ممّا نتج عن هذا التجديد والتغييرات التي أصابت المجتمع انقسام اتجاهات الشعراء إلى قسمين، فالقسم الأول من الشعراء ذهب نحو البساطة في طرح المعنى، والبعد عن الإغراب في الألفاظ، وعمدوا على الارتجال في أشعارهم، والتزموا الموضوع الواحد في قصائدهم، ولم يتقيّدوا بالأوزان العروضيّة، فتحرّروا منها، واستخدموا اللغة الشّعبية التي تكون بسيطة وفي متناول الجميع.[١٠]

أمّا القسم الثاني من الشعراء فقد اتجهوا إلى محاكاة القدماء في أشعارهم، سواء أكان ذلك بالألفاظ الجزلة، أم الأوزان العروضيّة، أم المعاني التي تحدث بها الشعراء الجاهليون، كما اهتم هؤلاء الشعراء باللفظ اهتمامًا كبيرًا، فلجؤوا إلى تحسين اللفظ وتجميله، والحرص عليه أكثر من انشغالهم بالمعنى، فالسمة العامة لأسلوب هؤلاء الشعراء هي الصّنعة والتّقليد.[١٠]

الشعر في القرن السادس إلى نهاية العصر العباسي

لقد عانت البلاد العربية اضطرابات شديدة في القرن السادس الهجري؛ وذلك بسبب تعرض العرب إلى هجمات الصليبيين الذين كان هدفهم القضاء على الإسلام، وفي ذلك الوقت كانت الدولة العباسية تعاني التفكك والضعف، وقد أدت هذه الحروب إلى حصول أزمة اقتصادية أدت إلى انتشار الفقر والجوع، ومن الطبيعي أن تتأثر الأشعار -كسائر نواحي الحياة الأخرى- بتلك الظروف.[١١]

لذلك فقد تنوّعت الأغراض الشعرية في ذلك الوقت، ولكن كان أكثرها انتشارًا هو شعر الجهاد؛ وذلك بسبب ما تعرّضت له الدولة من ظروف وأزمات سياسية، فتجد الشعراء قد حرضوا على الجهاد، ووصفوا المعارك التي خاضها أولئك الأبطال وأشادوا بها، وممّا جاء في تحريضهم على الجهاد قول ابن الخياط عندما سمع بمجيء النصارى إلى بلاد المسلمين فقال:[١١]

فدتْكَ الصواهل قُبًا وجُردا

وشمّ القبائل شيبًا ومردا

وذلت لأسيافكَ البِيضُ قُضبا

ودانت لأرماحِكَ السُّمرُ مُلدا

أبرز شعراء العصر العباسي

لقد لمعتْ أسماء مجموعةٍ من الشّعراء في العصر العباسي، ومن شعراء الأدب العباسي:

أبو الطيب المتنبي

أبو الطيب أحمد بن الحسين الكوفي المعروف بالمتنبي، تتلمذ وهو صغير في الكتّاب ولازمَ حلقات أبناء أشراف الكوفة وتعلّم هناك مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم والشعر، وكذلك فقد لازمَ الورّاقين وأخذ عنهم كثيرًا من الأدب، وحين شبّ التقى كثيرًا من العلماء مثل: الأخفش وابن جني وأبي علي الفارسي والزجّاج وابن دريد وابن السراج وغيرهم، وقد نظم من الشعر في معظم أبوابه المشهورة؛ فكتب في المديح والرثاء والفخر والهجاء وغير ذلك، وممّا قاله في أشهر قصائده مادحًا سيف الدولة:[١٢]

عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ

وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ

وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها

وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ

يُكَلّفُ سيفُ الدّوْلَةِ الجيشَ هَمّهُ

وَقد عَجِزَتْ عنهُ الجيوشُ الخضارمُ

وَيَطلُبُ عندَ النّاسِ ما عندَ نفسِه

وَذلكَ ما لا تَدّعيهِ الضّرَاغِمُ

هَلِ الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرِفُ لوْنَها

وَتَعْلَمُ أيُّ السّاقِيَيْنِ الغَمَائِمُ

سَقَتْها الغَمَامُ الغُرُّ قَبْلَ نُزُولِهِ

فَلَمّا دَنَا مِنها سَقَتها الجَماجِمُ

بشار بن برد

وهو بشار بن برد بن بوجوج، ويعد رائد التجديد في العصر العباسي؛ فقد جدّد في أغراضه وتشبيهاته ومعانيه، وأورد معانيه إيرادًا متناسبًا مع العصر الذي وجد فيه، فاستطاع أن ينقل القصيدة إلى قالبٍ جديد مع المحافظة على النسيج التّقليدي للقصيدة، وقد كان مُرغمًا على التجديد في الصور وابتداعها؛ ليرمّم النقص الذي كان في شخصيته بسبب إصابته بالعمى، والخيال في العصر العباسي قد اتسم بالجدة، وهذا ما يظهر جليًا عند بشار، وممّا جاء في تصويره قوله:[١٠]

كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه

وقد كان بشار أيضًا أوّل المجدّدين في استخدام البديع، ويظهر ذلك في قوله:

لم يطل ليلي ولكن لم أنم      

ونفى عني الكرى طيفٌ ألمْ

نفّسي عنّي يا عبد واعلمي    

أنّني -يا عبد- من لحمٍ ودمْ

ولجأ كذلك إلى التجديد في الأوزان فاستخدم الأوزان الخفيفة التي جاءت على بحر مجزوء الكامل.[١٠]

أبو العتاهية

وهو إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، وكان أكثر نتاجه الشعري في الزهد، ومن أهم خصائص هذا الشّعر هو شعبيته وانتشاره بين الناس، وزاد في ذلك وضوح أشعار أبي العتاهية وبعده عن الإغراب واللجوء إلى الأوزان القصيرة أيضًا، وهذا الشّعر يدور حول موضوع معيّن وهو مصير الإنسان ألا وهو الموت، ونجد شعره بعيدًا عن الفلسفة وقريبًا من مبادئ الدّين وأصوله، وممّا جاء به قوله:[١٠]

أنساكَ مَحْيَاك المماتا

فطلبتَ في الدنيا الثباتا

أوثقتَ بالدنيا وأنـ

ـتَ ترى جماعتها شتاتا

أبو تمام

وهو حبيب بن أوس الطائي المعروف بأبي تمام، وقد ظهر التجديد في شعره من خلال الإغراب في المعاني والتفنن في الاستعارات والتشبيهات وتوليد المعاني الجديدة، ومما قاله في إحدى أشهر قصائده:[١٢]

السَيفُ أَصدَقُ إنباءً مِنَ الكُتُبِ

في حَدهِ الحَدُّ بَينَ الجِد وَاللعِبِ

بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في

مُتونِهِن جَلاءُ الشَك وَالرِيَبِ

وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً

بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ

أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما

صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ

ابن الرومي

وهو أبو الحسن علي بن عباس المعروف بابن الرومي، وقد برع في شعر الهجاء، وشعره يمتاز بطول النفس وشمول المعنى والتحدث عن كل جزئياته، ويمتاز كذلك بإحساسه المرهف بالمؤثّرات الطّبيعيّة، وجنوحه إلى تشخيص الأشياء التي لا تعقل، وقد كان هجاؤه شديدًا لاذعًا، وممّا جاء من شعره يكشف ما به من وجد فيقول:[١٢]

يا أخي أين رَيْعُ ذاك اللقاءِ

أين ما كان بيننا من صفاءِ

أين مصداقُ شاهدٍ كان يحكي

أنك المخلصُ الصحيحُ الإخاءِ

شاهدٌ ما رأيت فعلك إلا

غير ما شاهدٍ له بالذكاءِ

كشفَتْ منك حاجتي هَنواتٍ

غُطِّيتْ برهةً بحسن اللقاءِ

أبو العلاء المعري

وهو أحمد بن عبد الله بن سلمان، وقد انقسمتْ حياة المعرّي إلى طورين مختلفين، الأول في مرحلة الشّباب وهذه الأشعار دوّنها في ديوان “سقط الزند”، والثّاني بعد مرحلة الشّباب وهي العزلة وقد دوّنه في ديوان “اللزوميات”، وممّا قاله في أيام شبابه:[١٢]

لله أيامنا المواضي

لو أنّ شيئًا مضى يعود

أبْلى وِدادي لكمْ زَمانٌ

ألْيَنُ أحْداثِهِ حَديد

لمْ يَبْلَ من بِذْلَةٍ ولكنْ

يَبْلى على طَيّهِ الجَديد

وممّا جاء في اللزوميّات قوله:[١٢]

قالوا فُلانٌ جَيِّدٌ لِصَديقِهِ

لا يَكذِبوا مافي البَريَّةِ جَيِّدُ

فَأَميرُهُم نالَ الإِمارَةَ بِالخَنى

وَتَقيُّهُم بِصَلاتِهِ مُتَصَيِّدُ

كُن مَن تَشاءُ مُهَجَّنًا أو خالِصًا

وَإِذا رُزِقتَ غنًى فَأَنتَ السَيِّدُ

نماذج من الشعر في العصر العباسي

  • يقول أبو نواس مفتخرًا:[١٣]

وَمُستَعبِدٍ إِخوانَهُ بِثَرائِهِ

لَبِستُ لَهُ كِبرًا أَبَر عَلى الكِبرِ

إِذا ضَمَّني يَومًا وَإِيّاهُ مَحفِلٌ

رَأى جانِبي وَعرًا يَزيدُ عَلى الوَعرِ

أُخالِفُهُ في شَكلِهِ وَأَجُرهُ

عَلى المَنطِقِ المَنزورِ وَالنَظَرِ الشَزر
لَقَد زادَني تيهًا عَلى الناسِ أَنني 
أَرانِيَ أَغناهُم وَإِن كُنتُ ذا فَقرِ
  • يقول المتنبي راثيًا:[١٤]

يا أُختَ خَيرِ أَخٍ يا بِنتَ خَيرِ أَبٍ

كِنايَةً بِهِما عَن أَشرَفِ النَسَبِ

أُجِلُّ قَدرَكِ أَن تُسمى مُؤَبَّنَةً

وَمَن يَصِفكِ فَقَد سَمّاكِ لِلعَرَبِ

لا يَملِكُ الطَرِبُ المَحزونُ مَنطِقَهُ

وَدَمعَهُ وَهُما في قَبضَةِ الطَرَبِ

غَدَرتَ يا مَوتُ كَم أَفنَيتَ مِن عَدَدِ

بِمَن أَصَبتَ وَكَم أَسكَتَّ مِن لَجَبِ
  • يقول المعري متحدثًا عن فلسفته تجاه الموت:[١٥]

غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي

نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ

وشَبِيهٌ صَوْتُ النعي إذا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أمْ غَنْـ

ـنَت عَلى فَرْعِ غُصْنِها المَيّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْـ

ـبَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ
  • يقول أبو تمام في قطعة من عيون شعر الاعتذار في العصر العباسي:[١٦]

نالَ رَأسي مِن ثُغرَةِ الهَمِّ ما لَم

يَستَنِلهُ مِن ثُغرَةِ الميلادِ

زارَني شَخصُهُ بِطَلعَةِ ضَيمٍ

عَمَّرَت مَجلِسي مِنَ العُوّادِ

يا أَبا عَبدَ اللهِ أَورَيتَ زَندًا

في يَدي كانَ دائِمَ الإِصلادِ

أنتَ جُبتَ الظَلامَ عَن سُبُلِ الـ

ـآمالِ إِذ ضَلَّ كُلُّ هادِ

وَحادِ فَكَأَن المُغِذَّ فيها مُقيـ

ـمٌ وَكَأَن الساري عَلَيهِنَّ غادِ

وَضِياءُ الآمالِ أَفسَحُ في الطَر

فِ وَفي القَلبِ مِن ضِياءِ البِلادِ

النثر في العصر العباسي

ما الأشكال النثرية الجديدة التي طرأت على الأدب في العصر العباسي؟

لقد كان للنثر في العصر العباسي مناهج جديدة غير ما كان معروفًا في العصور السابقة، وقد ظهرت اتجاهات كثيرة في النثر العربي، وفيما يأتي لمحة عن النثر في هذا العصر.

تطور النثر

إنّ التّغييرات التي طرأت على الدولة العباسيّة جعلت من الفنون النثرية تتطوّر وتتغيّر، أسباب تطور النثر في العصر العباسي:[١٧]

  • تمسّك العرب بالموروث الذي أخذوه عمّن سبقهم من البلاغة والخطابة، وخاص ّة أنّ العباسيين ينحدرون من آل هاشم المعروفين بحسن البلاغة.
  • اتّساع رقعة الدولة العباسيّة ممّا أدى إلى تداخل الشّعوب وتمازج ثقافاتها.
  • الأوضاع السّياسيّة التي تطلّبتْ نوع من الكلام يتمكّن من عرض المراد.
  • تطوّر الحياة في العصر العباسي وكثرة العمران والرخاء الأمر الّذي كان لا بدّ أن يؤثّر على المضمون الأدبي.

خصائص النثر في العصر العباسي

امتاز النثر في العصر العباسي بمجموعة من السمات، منها ما يأتي:

سمات النثر في العصر العباسي من حيث الألفاظ والعبارات

لقد استخدم الأدباء الألفاظ الواضحة البعيدة عن البيئة البدويّة المناسبة لمواضعها، وذلك تماشيًا مع البيئة التي يقطنون بها، أمّا فيما يتعلّق بالعبارات فقد كانت تطول وتقصر وذلك حسب ما يقتضيه الحال، وحسب ما تتطلبه الإبانة والإيضاح، ومن الجدير بالذّكر أنّه قد وجدتْ بعض الكلمات الأجنبيّة وهو أمرٌ طبيعيٌّ من تداخل الغرب بالعرب، فقد تنتقل بعض الألفاظ من أمّةٍ إلى أخرى.[١٨]

من حيث المعنى والأفكار

لقد كانت الأفكار دقيقة مرتّبة ترتيبًا منطقيًّا، فكلّ فكرةٍ توصلك إلى ما يليها، كما ذخرتْ هذه الأفكار بالحجج والبراهين المؤيّدة لما جاء فيها، وتلك البراهين كانتْ مما اعتادوه ووثقوا به، أمّا المعاني فقد كانت عميقة، يلجأ الأديب بها إلى التّحليل والتّفسير والإثبات، وذلك بسبب تأثّرهم في ذلك العصر بعلوم الفسلسفة وعلم الكلام الذي ظهر لدى المعتزلة، بحيث ذلّلوا تلك العلوم في معانيهم لتقوّيها وتدعمها.[١٨]

من حيث الصور والخيال

لقد كانت الصّور التي أطلقها الأدباء العباسيّون قويّة التّأثير دقيقة، وقد استمدوا هذه الصّور من تفاصيل حياتهم الجديدة فأبدعوا أيّما إبداع فيها، كما لجؤوا إلى المبالغة والتهويل وقد اقتبسوا ذلك من الثقافة الفارسيّة.[١٨]

لقراءة المزيد، انظر هنا: تطور النثر في العصر العباسي.

فنون النثر

لمّا كان النثر أكثر قدرةً على التّعبير عن الثّقافات وأوسع مجالًا، كان ذلك سببًا في ظهور فنون نثريّة جديدة مثل الحكايات والأخبار في العصر العباسي إلى جانب الفنون النثرية التي كانت موجودةً في العصر الأموي، ومن أشهر أنواع النثر في العصر العباسي ما يأتي.[١٨]

الخطابة

لقد استمرّت الخطابة بعد العصر الأموي، وذلك لأسباب عديدة، أوّلها ما ورثه العباسيون من فصاحة لسان وملكة عالية في البيان، والأمر الثّاني هو تمسّكهم بالتّقاليد الدّينيّة، بالإضافة إلى حصول الكثير من الانقلابات في بداية العهد العباسي مما دفع العباسيون إلى اللجوء إلى الخطابة في بيان أسس حكمهم، وقد تنوّعت الخطب بتنوّع مناسباتها، فكانت الخطب السّياسيّة، والخطب الدّينيّة، والخطب الاجتماعيّة، والخطب الحفليّة، وأمّا صورة الخطابة في بداية العصر فقد اتّصفتْ بقوّة التّأثير، وابتعدت عن الغريب المستهجن، واهتموا بصنعها، وبعد أن توطّدتْ أركان الدّولة العباسيّة فقد تراجع فنّ الخطابة وقلّ استخدامها فأهملها الخلفاء، وحلّتْ الكناية مكانها.[١٩]

الرسائل الديوانية

وهي الرسائل الرسميّة التي كانت تصدر عن ديوان الحكم، وقد عمد إلى هذا النوع من الرسائل كثيرٌ من الأدباء، وذلك لِما لها من منافع ماليّة عظيمة، بالإضافة إلى الوصول إلى مناصب عليا في الدّولة، وقد كانت هذه الرسائل خالية من الصور والزخارف اللفظيّة، فقد كانت تهدف إلى إيصال المعنى واضحًا جليًّا، فأطال الأدباء عند الحاجة للإطالة، وأوجزوا عند الحاجة لذلك أيضًا.[٢٠]

أمّا عن خصائص الرسائل في العصر العباسي فقد اهتمّ العباسيون بكلّ جزءٍ من أجزاء الرسالة ولا سيّما المقدمة، فجعلوها مناسبة لمضمونها؛ فإذا حسنتْ المقدّمة حسنت الرسالة كلّها، وقد بدؤوا معظم مقدماتهم بالبسملة والحمدلة كما في العصر الأموي، ومن الأدباء من استفتح رسائله بالشّعر، كما أنّهم قد وضعوا لكلّ رسالة عنوانًا خاص ًا بها، وأمّا مضامين الرسائل فقد كان موضوعها واحدًا، وقد لجأ الأدباء إلى اللغة البسيطة في رسائلهم، وزُينت الرسائل بشيء من السّجع والزخرف اللفظي، وقد ضمّن الكتّاب الأدلّة من القرآن والحديث والشّعر في رسائلهم.[٢٠]

وأمّا أساليب الرسائل، فقد كانت الألفاظ مناسبة لمعانيها مرتّبة ترتيبًا يدلّ على المعنى ويشير إليه بوضوح، وتنوّعت الأساليب بين الخبريّة والإنشائيّة وذلك وفقًا لما يقتضيه الحال، وقد استخدمت الصّور البيانيّة والمحسّنات البديعيّة بما يناسب المراد ويظهره كذلك، وقد اهتمّ العباسيون بالخواتيم كاهتمامهم بشتّى تفاصييل الرسالة، وتنوّعت هذه الخواتيم بتنوّع الموضوعات، ومن هذه الخواتيم: “والسّلام”، أو “لا حول ولا قوة إلا بالله”، أو “الله المستعان”، أو “والله أعلم” ونحوها، كما ختمها بعضهم بالدّعاء إلى المرسل إليه، ومنهم من ختمها ببيتٍ من الشّعر أو بآيةٍ من القرآن، وغير ذلك من النهايات.[٢٠]

التوقيعات

وهو فنٌّ أدبي جديد قد دخل إلى الأدب العربي، وهو فارسي الأصل، دخل في عهد الدّولة الأمويّة، وهو ما يوقّع به الخليفة على ما يأتيه من طلبٍ أو استشارةٍ أو غير ذلك من الأمور التي يطّلع عليها، وتكون هذه التّوقيعات عبارة عن جمل بليغة يستخدمها الخليفة، وقد كثرت التوقيعات في الدولة العباسية، ونسبت إلى السفاح والمنصور والمهدي وغيرهم، وقد اتّسمتْ هذه التوقيعات بالإيجاز، وممّا جاء من التّوقيعات توقيع السّفّاح في كتاب جماعة من بطانته يشكون احتباس أرزاقهم “من صبر في الشّدّة شارك في النعمة” وقد كثرتْ الأمثال والحكم في العصر العباسي في هذه التّوقيعات.[٢١]

المقامات

المقامة نوعٌ من أنواع النثر الأدبي، وهي عبارة عن قصّة قصيرة مسجوعة فيها الكثير من الملح والنوادر والعظات، وقد عمد إليها الأدباء إظهارًا لموهبتهم وليتباروا بين بعضهم بعضًا، أو قد يكون هدفهم منها التسلية والإضحاك، أو نقد الأدباء والتقليل من قدرتهم، أو التهذيب، أو الوصف، ولعلّ أشهر من كتب المقامات هو بديع الزمان الهمذاني، ومن خصائص المقامات في العصر العباسي:[٢٢]

  • لكلّ مقامةٍ اسمٌ خاص ٌّ يكون عنوانًا لها، لكنّه لا علاقة له بمضمون المقامة، وهذا الاسم قد يكون باسم صاحبها مثل: “المقامة الجاحظية”، أو باسم البلدان مثل: “المقامة الكوفيّة، والمقامة البغداديّة” والأخيرة تُشير إلى مكان حدوثها.
  • لكلّ مقامة راوٍ خاص ٌ بها، ويكون موحدًا في جميع المقامات.
  • البطل عنصرٌ أساسيٌّ في المقامة تدور أحداثها حوله، وينتهي به الحال دائمًا بالانتصار، والبطل في مقامات الهمذاني هو “أبو الفتح الاسكندري”، وهذا البطل أيضًا يكون نفسه في جميع المقامات، وهذا البطل يتّصف بالذكاء والحيلة، يفعل كلّ شيء ليصل لمبتغاه.
  • المقامة تحتوي على ضمير الغائب، حتّى يسلم نفسه الراوي من الاتّهام بالكذب، فرفع بذلك اللوم عن نفسه.
  • كل مقامة تحتوي على نكتةٍ معيّنةٍ، ويعني ذلك أنّ لكل مقامة فكرة يريد الكاتب أن يوصلها من خلال بطله.

أبرز أعلام النثر

لقد امتاز العصر العباسي بكثرة الكتاب والأدباء الذين أثروا المكتبة العربية بكثرة مؤلفاته الزاخرة بصنوف الأدب المختلفة، ومن أبرزهم:

ابن المقفع

واسمه روزبة بن دازويه، وهو فارسي الأصل، وتقوم طريقة ابن المقفع في الكتابة على المزج بين الثقافات والاهتمام بالأخذ عن الأعراب والاندماج معهم، وقد كان قمةً في البلاغة، ويعد الوجه الحقيقي للتطور الأدبي في النثر، ترك الكثير من الرسائل والمؤلّفات مثل: الأدب الكبير والأدب الصغير.[٢٣]

عمرو بن مسعدة

هو عمرو بن مسعدة بن سعيد بن صول، أحد ملوك جرجان، كان من الترك، ولكتاباته سمتان عامّتان: الأولى هي الإيجاز، فقد كان يقول لمن عاصره إن تمكنتم من جعل جيمع كتاباتكم توقيعات فافعلوا ذلك، والمعروف أنّ التّوقيعات تمتاز بالقصر، والثانية هي الوضوح الشّديد.[٢٣]

الجاحظ

هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزازة المشهور بلقب الجاحظ، له أسلوب يُميّزه عن غيره في الكتابة، وأمّا عن خصائص أسلوب الجاحظ في الكتابة فقد جمع بين التلوين العقلي والتلوين الموسيقي، ومردّ ذلك إلى اتّساع ثقافته، وعمد أيضًا إلى وصف المجتمع الذي ينتمي إليه، وذكر خصائصه بكل مكوّناته من إنسان وحيوان ونبات، وقد اعتنى اعتناءً كبيرًا بالألفاظ من حيث كونها مناسبة للمعنى، وممّا تميّز به أسلوبه أيضًا الميل إلى الازدواج، وقدرته على توليد معاني جديدة.[٢٣]

وقد ألّف الجاحظ في مجالات عدّة فأغنى اللغة العربية بكثرة مؤلّفاته، منها: كتاب الاعتزال وفضله في الفلسفة والاعتزال، وكتاب الاستبداد والمشاورة في الحرب في السّياسة والاقتصاد، وكتاب البيان والتبيين في الأدب، وغير ذلك من المؤلّفات.[٢٣]

نماذج من النثر في العصر العباسي

لقد كانت فنون النثر المختلفة وسيلة لوصول الخلفاء إلى أهدافهم، ومن نماذجها:

الخطابة

من أشهر الخطب في العصر العباسي ما قاله أبو جعفر المنصور: “مهلًا مهلًا، روايا الإرجاف، وكُهوفَ النفاق، عن الخَوْض فيما كُفيتم، والتخَطي إلى ما حُذرْتُم قبل أن تَتْلف نفوس، ويقلّ عدد، ويدول عزٌ، وما أنتم وذاك، ألم تَجدُوا ما وَعَد ربكم من إيراث المُسْتَضعفين من مَشارق الأرض ومَغاربها حقًا والجَحْد الجحد، ولكن حِب كامن، وحَسدٌ مُكْمِد، فبُعدًا للقوم الظالمين”.[٢٤]

الرسائل الديوانية

من أشهر الرسائل الديوانية ما كتبة ابن المعتز واصفًا الكتاب والقلم: “الكتاب والجُ الأبواب، جريءٌ على الحِجاب، مفهمٌ لا يفهم، وناطقٌ لا يتكلم، به يشخص المشتاق إذا أقعده الفِراق، والقلمُ مُجهزٌ لجيوش الكلام، يخدم الإرادة، ولا يمل الاستزادة، ويسكت واقفًا، وينطق سائرًا على أرض بياضُها مظلمٌ، وسوادُها مضيء، وكأنه يقبل بساط سلطان، ويفتح نوار بستان”.[٢٥]

التوقيعات

ومن ذلك ما كتبه جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي لبعض الولاة: “قد كثر شاكوك وقلّ شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت”.[٢٦]

المقامات

ومن أشهر المقامات ما كتبه بديع الزمان الهمذاني في المقامة الساسانيّة، فيقول فيها: “حدّثنا عيسى بن هشام قال: أحلتني دمشق بعض أسفاري، فبينا أنا يوما على باب داري، إذ طلع علي من بني ساسان كتيبة قد لفوا رؤوسهم، وصلوا بالمغرة لبوسهم، وتأبط كل واحد منهم حجرا يدق به صدره، وفيهم زعيم لهم يقول وهم يراسلونه، ويدعو ويجاوبونه”.[٢٧]

لقراءة المزيد، انظر هنا: خصائص المقامة.

المراجع[+]

  1. حمود بن عبد الله سلامة، إبراهيم بن حسن دريعي، أحمد بن سليمان المشعلي، الأدب العربي في العصر العباسي، الرياض:مكتبة الملك فهد الوطنية، صفحة 9. بتصرّف.
  2. حمود بن عَبد الله سَلامة، إبراهيم بنْ حَسن دريعي، أحمَد بن سُليمان المشعلي، الأدَب العربي في العَصر العباسيّ، الرياض:مكتبة الملك فهد الوطنية، صفحة 9. بتصرّف.
  3. حمّود بن عبد الله سلامة، إبراهيم بن حسَن دريعي، أحمد بن سليمان المشعلي، الأدبُ العربيّ في العصر العباسي، الرياض:مكتبة الملك فهد الوطنية، صفحة 9. بتصرّف.
  4. ^ أ ب طه حسين، تقليد وتجديد، المملكة المتحدة: مؤسسة هنداوي، صفحة 15. بتصرّف.
  5. ^ أ ب ت ث ج ح أحمد الطيب خوجلي عباس، الاتجاه التجديدي وأثره في نهضة الشعر في العصر العباسي الأول، الخرطوم:منشورات جامعة امدرمان الإسلامية، صفحة 45. بتصرّف.
  6. أحمد الطيّب خوجلي عبّاس، الاتّجاه التجديدي وأثره في نهضة الشعر في العصر العباسي الأول، الخرطوم:منشورات جامعة امدرمان الإسلامية، صفحة 45. بتصرّف.
  7. أحمَد الطّيب خوجلي عباس، الاتجاه التّجديديّ وأثره في نهضَة الشعر في العصر العباسي الأوّل، الخرطوم:منشورات جامعة امدرمان الإسلامية، صفحة 45. بتصرّف.
  8. ^ أ ب أحمد الطّيّب خوجَلي عباس، الاتجاهُ التّجديديّ وأثرُه في نهضة الشعر في العصر العباسي، الخرطوم:منشورات جامعة امدرمان الإسلامية، صفحة 66. بتصرّف.
  9. ^ أ ب ت ث أحمد الطيب خوجلي عباس، الاتجاه التجديدي وأثره في نهضة الشّعر في العصر العباسي، الخرطوم:منشورات جامعة امدرمان الإسلامية، صفحة 68. بتصرّف.
  10. ^ أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر أحمد الطيب خوجلي عباس، الاتجاه التجديدي وأثره في نهضة الشّعر في العصر العباسي، الخرطوم:منشورات جامعة امدرمان الإسلامية، صفحة 72. بتصرّف.
  11. ^ أ ب صلاح عبد اللطيف محمد أحمد، اتجاهات الشعر العربي في المشرق، الخرطوم:منشورات جامعة امدرمان الإسلامية، صفحة 8. بتصرّف.
  12. ^ أ ب ت ث ج أنيس المقدسي، أمراء الشّعر العربي في العصر العباسي، بيروت:دار العلم للملايين، صفحة 325. بتصرّف.
  13. “ومستعبد إخوانه بثرائه”، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 1/2/2021. بتصرّف.
  14. “يا أخت خير أخ يا بنت خير أب”، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 1/2/2021. بتصرّف.
  15. “غير مجد في ملتي واعتقادي”، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 1/2/2021. بتصرّف.
  16. “سعدت غربة النوى بسعاد”، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 1/2/2021. بتصرّف.
  17. شوقي ضيف، العصر العباسي الثاني، القاهرة:دار المعارف، صفحة 513. بتصرّف.
  18. ^ أ ب ت ث حسام محمد علم، دراسات في النثر العباسي (الطبعة 4)، القاهرة:منشورات جامعة الأزهر، صفحة 51، جزء 2. بتصرّف.
  19. حسام محمد علم، دراسات في النثر العباسي (الطبعة 4)، القاهرة:منشورات جامعة الأزهر، صفحة 64، جزء 2. بتصرّف.
  20. ^ أ ب ت بن عبد الحفيظ رونق، محبوب هالة، بنية الرسالة في العصر العباسي، الجزائر:منشورات جامعة العربي بن مهيدي، صفحة 23. بتصرّف.
  21. حسام محمد علم، دراسات في النثر العباسي، القاهرة:منشورات جامعة الأزهر، صفحة 85. بتصرّف.
  22. لميس خفيف، سلمى هايل، فن المقامات في العصر العباسي، الجزائر:منشورات جامعة العربي بن مهدي، صفحة 18. بتصرّف.
  23. ^ أ ب ت ث حسام محمد علم، دراسات في النثر العباسي، القاهرة:منشورات جامعة الأزهر، صفحة 91، جزء 2. بتصرّف.
  24. حسين عبد العالي اللهيبي، الخطابة العربية في العصر العباسي الأول، الكوفة:منشورات جامعة الكوفة، صفحة 93.
  25. بن عبد الحفيظ رونق، محبوب هالة، بنية الرسالة في العصر العباسي، الجزائر:منشورات جامعة العربي بن مهيدي، صفحة 24. بتصرّف.
  26. حمد بن ناصر الدخيل، فن التوقيعات الأدبية في العصر الإسلامي والأموي والعباسي، الرياض:منشورات جامعة الإمام محمد بن سعود، صفحة 10. بتصرّف.
  27. شوقي ضيف، المقامة (الطبعة 3)، القاهرة:دار المعارف، صفحة 21. بتصرّف.






اللهم اجعلنا ممن ينشرون العلم ويعملون به واجعله حجه لنا لا علينا

تصميم وبرمجة شركة الفنون لحلول الويب