قصة جميل وبثينة

قصة جميل وبثينة


اللقاء الأول بين جميل وبثينة 

كيف بدت الصدفة التي جمعت جميل بمحبوته أول مرة؟

كان جميل بن عبد الله بن معمر العذري، من أبرز شعراء الحجاز الغزليين في العصر الأموي، وقد عرف واشتهر بنسبة اسمه إلى محبوبته بثينة، وكان قد التقى بمحبوبته وابنة عمه بثينة بنت حبأ بن حن بن ربيعة العذري، في وادي بغيض بالقرب من المدينة المنورة وقد كان جميل قد سرح الإبل لترعى بينما اضطجع هو وغفل عنها، فإذا ببثينة ترد الوادي مع صديقة لها وتضرب إحدى الإبل عابثة فتنبه لها جميل فسبها وسبته وتبادلا الشتائم وقد استملح سبابها ووقعت في نفسه[١]، لقد عنى لقاء بثينة هذا الكثير لجميل حتى أنه خلده في شعره قائلًا:[٢]

وَأَوَّلُ ما قادَ المَوَدَّةَ بَينَنا

بِوادي بَغيضٍ يا بُثَينَ سِبابُ

وَقُلنا لَها قَولًا فَجاءَت بِمِثلِهِ

لِكُلِّ كَلامٍ يا بُثَينَ جَوابُ

في شعر جميل بن معمر ما يثبت أن بثينة لم تكن حبه الأول وعلى الرغم من ذلك كانت هي المرأة الوحيدة التي وقع غرامها في قلبه بكل صدق وشغلته عن سائر نساء العالمين.[١]

تقدم جميل للزواج من بثينة 

لماذا رفض أهل بثينة تزويجها من جميل؟

بما أن جميل بن معمر كان قد أحب ابنة عمه بثينة وأولع قلبه بها كان قد ارتأى أن يتقدم لها فيخطبها ويتزوجها، ويبدو أنه لم يكن يتوقع ردة فعل أهل بثينة نظرًا لرابط القرابة الذي يجمع بينهما، إلا أن أهلها لم يراعوا هذه القرابة ولم يولوها أي اهتمام، كما أنهم يأبهوا بالحب الذي جمع بين جميل وبثينة، وجل ما كانوا يفكرون به هو ردة فعل الناس من بعد تزويجهما والكلام الذي سيتقولونه على بثينة، فقد خشي والدها أن يقول الناس عنه إنّه زوج ابنته لمن شبب بها، ليستر عارًا أتت به، لذلك سارع لتزويجها لرجل ثري كان قد تقدم لخطبتها وكسر قلب جميل.[٣]

لقد اعتاد العرب على منع تزويج العشاق تأديبًا لهم واتقاءً لكلام الناس عنهم، وهذا ما أودى بالكثير من العشاق من بني عذرة الذين عرفوا بأنهم قوم إذا عشقوا ماتوا، كما أن بعض شعراء الغزل العذري الذين ذاقوا مرارة العشق وحلاوته ثم حرموا منه بالإقصاء عن الحبيب كانوا قد بلغوا حد الجنون كما هو الحال لدى الشاعر قيس بن الملوح المعروف بمجنون ليلى، والشاعر قيس بن ذريح المعروف بمجنون لبنى، وكذلك فإن خبر تزويج بثينة من رجل آخر لم يكن سهلًا على جميل بن معمر وإن لم يبلغ حد الجنون وقد ضمن غزلياته شعرًا في هجاء زوجها واستنكر زواجه من بثينة في شعره[٣]، حيث يقول:[٤]

لَقَد أَنكَحوا جَهلًا نُبَيهًا ظَعينَةً

لَطيفَةَ طَيِّ الكَشحِ ذاتَ شَوىً خَدلِ

إِذا ما تَراجَعنا الَّذي كانَ بَينَنا

جَرى الدَمعُ مِن عَينَي بُثَينَةَ بِالكُحلِ

وَلَو تَرَكَت عَقلي مَعي ما طَلَبتُها

وَلَكِن طِلابيها لِما فاتَ مِن عَقلي

فَإِن وُجِدَت نَعلٌ بِأَرضٍ مضِلَّةٍ

مِنَ الأَرضِ يَومًا فَاِعلَمي أَنَّها نَعلي

زواج بثينة من نبيه بن الأسود 

هل تخلى جميل عن محبوبته بعد زواجها؟

قام أهل بثينة بتزويجها من رجل يدعى نبيه بن الأسود في محاولة منهم لإخماد نار حبها لجميل بن معمر والخلاص منه ومن العار الذي يمكن أن يلحقه بهم عند ملاحقته لمحبوبته بثينة، ولقد كانت ردة فعل جميل بن معمر عكسية تمردية فهو وإن حزن وتألم لزواجها إلا أن ذلك لم يدفعه للجنون الذي كان قد أصاب غيره من الشعراء العشاق، ولكنه في نفس الوقت لم يحل دون لقائه بها وتشببه وغزله بها.[٥]

لقد ظل جميل بن معمر يلاحق محبوبته بثينة بعد زواجها كما كان يتربص الفرص لغياب زوجها، فكان يلقاها ويزورها في بيتها حينًا، ويلتقيها في أماكن اعتادا على التلاقي بها أحيانًا أخرى، أما من جانب بثينة فهي لم تكن تصده وتمنع نفسها منه مطلقًا فقد كانت تراسله وتواعده وتطلب من جاريتها أن تعينها على لقائه، وذلك كان قد دفع زوجها نبيه بن الأسود ليشكوه للخليفة وحبسه، كما دفع ذلك أهلها للتربص لقتل جميل في كثير من الأحيان، إلا أن جميل بن معمر كان يواجه أهلها ويقاتلهم وأعلن عدم خوفه من أحد منهم ولعل هذه الملاحقات ومحاولات منعه من الوصول لمحبوبته بثينة كان قد أثار حبها في نفسه من جديد[١]، فهو يقول:[٦]

فَلَيْتَ رِجالًا فِيكِ قَدْ نَذَرُوا دَمِي

وَهَمُّوا بِقتْلي يَا بُثَيْنَ لَقُونِي

إذَا مَا رَأوْني طَالِعًا مِنْ ثَنِيَّةٍ

يَقُولُونَ مَنْ هذا وَقد عَرَفُونِي

يَقُوُلونَ لِي أهْلاً وَسَهْلاً وَمَرْحَبًا

ولوْ ظَفِرُوا بِي سَاعَةً قَتلونِي

وَكَيْفَ وَلا تُوفِي دِماؤُهُمُ دَمِي

وَلاَ مَالُهُمْ ذُو نَدْهَةٍ فيَدُونِي

مروان بن الحكم يهدد جميلًا بقطع لسانه

كيف واجه جميل بثينة حكم الوالي؟

لقد حاول قوم بثينة القيام بكل ما كان باستطاعتهم أن يقوموا به لمنع ابنتهم بثينة من محبوبها جميل بن معمر، وعلى الرغم من أن محاولاتهم سرعان ما كانت تبوء بالفشل واحدة تلو الأخرى إلا أنهم لم يكفوا عن المحاولة ولم ييأسوا حتى مماته، ومن بين تلك المحاولات تلك التي أقدم عليها زوج بثينة حيث تقدم بشكوى لدى الوالي مروان بن الحكم على جميل بن معمر وما كان من الوالي إلا أن تعهده بقطع لسانه ليكفه عن بثينة وقومها، وقيل إنّه كان يرى أن من حق القوم أن يقوموا بقتل العاشق الذي يلاحق ابنتهم إن عثروا عليه في ديارهم دون خوف من القصاص والعقاب، وهذا الحكم كان قد دفع جميل بن معمر للانتقال إلى اليمن حتى إذا عزل الوالي عن منصبه عاد جميل بن معمر سيرته الأولى في ملاحقته بثينة وتغزله بها.[٧]

اللقاء الأخير بين الحبيبين 

ما هو سبب افتراق جميل عن محبوبته؟

أصاب أهل بثينة اليأس من محاولاتهم منع جميل بن معمر عن ابنتهم بقتله نظرًا لعظيم شأن قومه وقوتهم، وفشلت محاولاتهم في شكايته إلى الولاة حيث لم تجد نفعًا معه ولم تكفه عن لقاء محبوبته، لذلك فإنهم لم يجدوا بدًا من الإساءة لسمعته بما أصدروه من إشاعات مغرضة تقول إنّه يلاحق أمَة لهم وأن ابنتهم بثينة لا صلة لها به بعد زواجها، محاولين بذلك تبرئة بثينة، إلا أن ذلك كان قد أزعج جميل بن معمر وأثار غيظه مما دفعه لابتكار حيلة يحبط بها تقولهم عليه.[٨]

لقد كانت الحيلة التي قام بها جميل بن معمر قد أودت بصلته ببثينة، حيث أثار الحزن في نفسها وعزمت على مفارقته رغم ما تكنه في قرارة نفسها من حب له، فقد واعد جميل بثينة يومًا في مكان يقال له برقاء ذي ضال، فأخذهما الحديث والسمر طوال الليل حتى إذا جاء وقت السحر طلب منها أن ترقد فتوسدت يده ونامت، وتسلل جميل بخفة عند الصبح بينما بثينة لا تزال نائمة عند مناخ راحلته فرآها القوم وأدركت بثينة ما أراده جميل بها فهجرته ولم ترجع إليه.[٨]

ولما يئس جميل من لقاء بثينة سافر إلى مصر وهناك مرض وشارف جميل على الموت، وقيل إنه كان قد أنشد قصيدة وهو يحتضر[٩]، يقول فيها:[١٠]

صَدَعَ النَعِيُّ وَما كَنى بِجَميلِ

وَثَوى بِمِصرَ ثَواءَ غَيرِ قَفولِ

وَلَقَد أَجُرَّ الذَيلَ في وادي القُرى

نَشوانَ بَينَ مَزارِعٍ وَنَخيلِ

بَكُرَ النَعِيُّ بِفارِسٍ ذي هِمَّةٍ

بَطَلٍ إِذا حُمَّ اللِقاءُ مُذيلِ

قومي بُثَينَةُ فَاِندُبي بِعَويلِ

وَاِبكي خَليلَكِ دونَ كُلَّ خَليلِ

لما بلغ خبر وفاته بثينة خرجت مع نساء من قومها مهلوعة وكانت أطولهن قامة وأخذت تتخبط في عباءتها وتتعثر وما إن أخرج المخبر لها عباءته وأنشدها أبياته الأخيرة حتى صكت وجهها وأخذت تندبه هي وبنات الحي اللاتي اجتمعن معها حتى وقعت مغشيًا عليها[٩]، فلما نهضت قالت لتودع جميل بن معمر هذه الأبيات من الشعر: [٩]

وإن سُلُوّي عن جميلٍ لَسَاعةٌ

من الدهرِ ما حانت ولا حان حينها

سواء علينا يا جميلَ بن معمَرٍ

إذا مت بأساءُ الحياةِ ولينُها

تركت قصة الحب التي جمعت جميلًا ببثينة أثرًا بارزًا في الشعر، من خلال تلك العواطف الصادقة التي خلدت مفهوم الحب الحقيقي في قاموس الإنسانية، واللغة الشعرية الرقيقة التي تحشد في ثناياها الكثير من المعاني العميقة التي تفسر الخلجات النفسية التي يمر بها العشاق.[١١]

لقراءة المزيد من شعر جميل، اخترنا لك هذا المقال: أجمل ما كتب جميل بثينة.

المراجع[+]

  1. ^ أ ب ت جميل بن معمر، ديوان جميل بثينة، صفحة 6. بتصرّف.
  2. “وأول ما قاد المودة بيننا”، الديوان.
  3. ^ أ ب سارة عبابسة، بیئات الغزل في العصر الأموي دراسة موازنة بین القصیدة البدویة والقصیدة الحضریة، صفحة 100. بتصرّف.
  4. “لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي”، الديوان.
  5. زكي مبارك، العشاق الثلاثة، صفحة 19. بتصرّف.
  6. سارة عبابسة، بیئات الغزل في العصر الأموي دراسة موازنة بین القصیدة البدویة والقصیدة الحضریة، صفحة 101.
  7. زكي مبارك، العشاق الثلاثة، صفحة 22. بتصرّف.
  8. ^ أ ب جميل بثينة، ديوان حميل بثينة، صفحة 9. بتصرّف.
  9. ^ أ ب ت جميل بن معمر، جميل بثينة، صفحة 68. بتصرّف.
  10. “صدع النعي وما كنى بجميل”، الديوان.
  11. كريم الربيعي، الغزل العذري حىت نهاية العصر الأموي أصله وبواعثه وبنيته الفنية، صفحة 4. بتصرّف.






اللهم اجعلنا ممن ينشرون العلم ويعملون به واجعله حجه لنا لا علينا

تصميم وبرمجة شركة الفنون لحلول الويب