X
X


موقع اقرا » الآداب » مفاهيم ومصطلحات أدبية » تعبير كتابي عن الوطن

تعبير كتابي عن الوطن

تعبير كتابي عن الوطن


المقدمة: حب الوطن تدركه الحواس قبل الحدود

لا يدرك الطفل بيته من سور الحديقة التي تفصل بيته عن بيت الجيران، بل يدركه بوجه أمّه وأهله الذين يحبّ، يدركه بشجرتين واقفتين في الحديقة، وعصفور دائم الزيارة لنافذة غرفته، كذلك تدرك الأوطان، فهي ليست حدودًا على خريطة في أطلس مدرسيّ، إنّه ليس هذا الحاجز الذي يحرسه جنود مرهقون، الوطن هو أن تشعر بحواسك مندمجة مع كلّ ما في الأرض، وكأنّ مكنوناتها تصنع حواسك، فالقمح يصنع القلب، والسماء تعطيك البصر، والعصافير تهبك السمع، والأمّ تهدي إليك يديك.

العرض: الوطن منزل الذكريات وموقد الإنجازات

في الوطن تعيش ذاكرتنا، ذكرياتنا عن أنفسنا وعمّن نحبّ وعمّا نحبّ، فالوطن ليس مجرّد مكان للعيش، فهو مسكن تسكن إليه النفس وتهدأ، ويلين القلب بلقيا الأحبّة، الوطن حيث يكبر الطّفل فينا ويشبّ ويشيب، تتزاحم المشاعر وتتداخل في روائحه، حيث رائحة شجرة التين، وعبق الياسمين، ودالية البيت، وطعام الأمّهات الحانيات، وعرق الآباء الكادحين، وضجيج الأخوة المحبّب، وحنوّ القريب، وودّ الصّديق، وجار الدّار، وضوع الدّيار.

في الوطن تمسك الأيادي بالأمنيات كما تمسك فراشة طائرة، لا نملّ مطاردتها، تغرينا بجمالها وخفّتها وألوانها، هكذا تكبر الأحلام فينا، فترعاها أزهار الحديقة وتحملها حقيبة مدرسة الحيّ، وتسير بها طرقًا نحو الحياة.

فكم يطيب للإنسان اللعب والجدّ في مكانه الأثير، راعي البدايات، كلماتنا الأولى، وخطواتنا العجلى، وقلوبنا النديّة، وقفارنا العصيّة، مكان للصّعب والسّهل على السّوء، أوطاننا حكايا الحياة بحلوها ومرّها، بوجهيها الضاحك والعابس، بلينها وقسوتها. يقول الشعر رفاعة الطهطاوي:[١]

يا صاحِ حبُّ الوطنْ

:::حليةُ كل فَطِنْ

محبةُ الأوطانِ

:::من شُعب الإيمانِ

في أفخر الأديان

:::آية كل مؤمن

يا صاح حبُّ الوطن

:::حلية كل فطن

مساقطُ الرُؤوسِ

:::تَلَذُّ للنفوسِ

تُذهبُ كل بُوسِ

:::عنّا وكلَّ حزنَ

يشكّل المكان وعي الإنسان ويرسم خريطة مشاعره، وينضوي في جنبات العقل ويتوارى في أدقّ تفاصيله، فيتشكّل اللاوعي معجونًا برائحة المكان، لا شكّ في أثر البيئة على الإنسان، فالمكان ليس جمادًا بل حاضن لحركة لا تنتهي، وحمل لتاريخ عريق ضارب في القدم، ففي المكان تبنى حضارات وتنهار، وتأتي أيادٍ جديدة لتبني من جديد، فالأرض موطن لحضارات، وشاهد على إصرار الإنسان على الحياة والوجود ورغبته في التشكيل والخلق والاكتشاف والابتكار.

يميل الإنسان بطبيعته إلى الاستقرار، وغالبًا ما يبحث عن مكان يشعر فيه بالراحة والانسجام، لهذا يشعر الإنسان بالانتماء إلى المكان الذي نشأ فيه وكبر، لأنه مرتبط به من حيث التاريخ والثقافة والعادات والتقاليد واللغة، دمه كدماء أهله، ولونه كلونهم، تشكّله أغاني الرعاة والحصادين وتهويدة الأمهات، واهتزازات المهد، وتلاعبه قطط الحديقة، وخراف الجيران، وبلابل الصبحات الزكيّة، وتاريخ البلاد، وحكايا الأجداد وخرافات الجدّات.

إن الانتماء للوطن يعني أن يدرك الإنسان تاريخه ويحترم حضارته وثقافته، وبالتالي يفتخر بوطنه ويعتزّ به، فيسعى لبنائه ويعمل من أجل ازدهاره ورفعته، ويدافع عنه في وجه كل معتدٍ غاصب، ويهبّ نجدته عند الحاجة، فالوطن ليس مجرّد مكان قفرٍ من المعاني، فهو موطن الذكريات، وصورة الذات إذ يلتحم تاريخ الوطن بالتاريخ الشخص للأفراد، فيتأثرون بأحداثه ويؤثرون، يؤلمهم ما يؤلم أوطانهم، ويفرحهم ما يزيدها رفعةً وجمالًا، ويدنو به نحو الكمال.

قد تقسو الأوطان على أولادها أحيانًا، فتضيق بهم الأحوال ويضطرون آسفين لمغادرة البلاد التي أحبوها، فيتركون أهلهم وذويهم وأقربائهم وأحبائهم لينتقلوا إلى بلاد أخرى لعلم أو عمل أو رغبة في السفر، وليس السفر بالأمر الهيّن مهما بلغ العالم من التطوّر، فهو ما زال شاقًّا رغم ذلك، ومرهقًا على المستويين الجسدي والنفسي، وكثيرًا ما يواجه المغترب شتّى الصّعاب، ويضطر للتصدّي لكثير من العقبات التي لا تقل صعوبة عمّا اعتاد مواجهته في بلاده.

كثير ما يضطر المغترب إلى تعلّم لغة جديدة، ومجاراة نمط حياة غير معتاد عليه، والتعرّف على ثقافات جديدة، وأشخاص قد لا يربطه معهم أي شيء مشترك، ما يعدّ أمرًا صعبًا، فعليه أن يعتمد على نفسه بالكامل دون أن يطلب مساعدة من أحد، والاغتراب عن الوطن لا يعتبر خيانة فقد يضطر الإنسان إلى السعي نحو رزقه أو تعلّم تخصّص ينفع به نفسه وأمّته، إلّا أنّ على الإنسان أن يستشعر رابطته مع وطنه، ويعلم أن الحنين سيردّه إلى مكانه الأول ومسكنه الأثير، مجمع الأحباب والأصحاب.

الوطن مهوى الأفئدة، ومجرى الدماء، هو مكان جدير بالفداء والعطاء، لائق بالفخر والاعتزاز، يدين له الإنسان بحياته التي عاشها بين جنباته يسير في شوارعه، ويتعلم في مدارسه وجامعاته، وينها من علمائه وكتبه وثقافته، ويكسب رزقه وقوت يومه وأهله في مؤسساته، ويشيب بين أهله، وينعم بخيراته، أفلا يستحقّ من الإنسان أن يخلص له في محبّته ويصدق معه في فدائه؟! فيقدّم في سبيله الغالي والنفيس، وقد يضحّي الإنسان بنفسه وحياته في سبيل الدفاع عن وطنه والذبّ عنه.

ولا يعني الانتماء كتابة أشعار الفخر والاعتزاز وغناء الأناشيد الوطنيّة ورفع الأعلام، فمحبّة الوطن فعل يمارسه الإنسان يوميًّا بما يعكسه للآخرين من أخلاقه وثقافته وعاداته وتقاليد، فيتمثّل ما تعلّمه من هذه البيئة وهذا الوطن العريق.

الخاتمة: الغربة والحنين للوطن

تتخطّفنا الأماكن، والدنيا الغريبة، فكل مكان جديد دنيا غريبة، لا صوت فيها لمن نحبّ ولا صور سوى خيط ضعيف ترعاه التكنولوجيا الحديثة نرى من خلاله أهلينا وأصدقاءنا، لكن الحنين لا ينطفئ، تؤججه الطرق التي تضيق بالغريب، وتحييه أصداء صوته الوحيد يرتدّ إليه كلّما انطلق بالأنين، فأين الأصدقاء القدامى من صديق بعيد جال المدن دون رفقة تعينه على رؤيا الجمل وتسلّيه في السفر، وأين الأيدي التي تربت على الأكتاف حين تنقضّ الصّعاب على ظهر مثقل، حاله كحال من يقول:[٢]

فَهَلْ لِغَرِيبٍ طَوَّحَتْهُ يَدُ النَّوَى

:::رُجُوعٌ وَهَلْ لِلْحَائِمَاتِ وُرُودُ

المراجع

  1. “يا صاح حب الوطن”، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 16/9/2021. بتصرّف.
  2. “أراك الحمى شوقي إليك شديد”، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 16/9/2021. بتصرّف.






X
X
X

اللهم اجعلنا ممن ينشرون العلم ويعملون به واجعله حجه لنا لا علينا

تصميم وبرمجة شركة الفنون لحلول الويب