X
X


موقع اقرا » الآداب » مفاهيم ومصطلحات أدبية » الأسطورة في الشعر العربي الحديث

الأسطورة في الشعر العربي الحديث

الأسطورة في الشعر العربي الحديث


مفهوم الأسطورة في الشعر العربي الحديث

كيف نشأت الأسطورة؟

لقد نشأت الأسطورة في البداية نوعًا من محاولة تفسير الظواهر الغريبة التي وقف الإنسان القديم عاجزًا عن تفسيرها[١]، والأسطورة في اللغة العربية مشتقة من الجذر سطّر، ولها في اللغة الكثير من المعاني منها ما يكتبه الإنسان، ومنها الأباطيل والأكاذيب التي يُقال للواحدة منها أسطورة والجمع أساطير[٢]، وقد وردت في القرآن الكريم بهذا المعنى كما في قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا ۙ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.[٣][٤]

فهي إذًا قصص غير حقيقية تحكي عن شخصيات خيالية لها قوى خارقة، أو تحكي عن مواقف لا أصل لها ولكنّ الإنسان قد فسّرها على نحو خارق ليسوّغ قصور عقله عن إدراكها، وقد دخلت الدين وكوّنت عند الناس معتقدات ارتبطت بمجموعة من العبادات للآلهة الخرافية التي كانوا يعتقدون وجودها[٥]، ومع ظهور الشعر العربي الحديث وجد بعض الشعراء ممّن أدخلوا الأساطير إلى الشعر العربي لما في ذلك من قدرة على التعبير عن القضايا العامة التي لا يستطيع التعبير عنها مباشرة، كالظلم والاستبداد والتفرقة الاجتماعية والفقر والمرض والحرمان والمعاناة وغيرها من الأمور التي كانت حاضرة بقوة في المجتمعات العربية.[٦]

لقراءة المزيد، انظر هنا: مفهوم الأسطورة في الأدب.

تحولات توظيف الأسطورة في الشعر العربي الحديث

ما المحاور التي تتجلّى من خلالها تحولات توظيف الأسطورة في الشعر العربي الحديث؟

إنّ تحوّلات توظيف الأسطورة في الشعر العربي الحديث تتمثّل في ثلاثة جوانب هي: الانزياح الأسطوري، وتحوّلات البنية الشعرية، وتحوّلات الدلالة الشعرية، وتفصيلها كما يأتي:

الانزياح الأسطوري

إنّ المقصود بالانزياح الأسطوري هو مصطلح نقديّ يعني تعديل الأديب أو الشاعر للأسطورة الأصلية وتكييفها كما يشاء بما يلائم قصده في شعره أو نثره، وسبب هذا التعديل هو اختلاف المجتمعات بين القديم والحديث، ففي البداية كان الشعراء يستخدمون الرموز الأسطوريّة ذاتها من دون تحوير أو تعديل، ولكن بعد أن أتقن الشعراء منطق الأسطورة فإنّ عملهم في الأسطورة أخذ منحًى جديدًا يتناسب ومتطلبات العصر الحديث والمعارف الجديدة التي أتقنها الإنسان.[٧]

الأسطورة أشبه ما تكون بإعادة هيكليّة الواقع لتبني قوانينه كما يلائمها وفق رؤيةٍ “تقوّض الحدود الفاصلة بين ما هو واقعي وما هو فوق الواقعي”، ويمكن فهم الانزياح من خلال فهم ثلاثة مصطلحات، تفصيلها فيما يأتي:[٧]

  • التجلي: ويُقصد به الإشارات التي ترد في نص معيّن وقد تكون تامة وصريحة أو مبهمة أو قد تكون جزئية أيضًا، ويكون التجلي من خلال عدة تقنيات هي:[٨]
    • العنوان: والعنوان أوّل ما يواجه القارئ، ومن خلاله يعبّر الشاعر عن الوظيفة الدلالية والجمالية للنص، ويشكل العنوان بداية الدلالة الأولية للقارئ تجاه النص.
    • اللازمة: وهي عبارةٌ أو كلمةٌ تتكرر في النص بوتيرة معيّنة، وهي مولدٌ ذاتيٌّ للنص من حيث كونها حلقة الوصل بين أجزاء القصيدة الشعرية.
    • التناص: ويقصد بالتناص حضور بعض النصوص التراثية أو غير التراثية سواء كانت شعرية أم غير ذلك في نص واحد.
    • الصورة البلاغية: وهي من التقنيات الأكثر شيوعًا في الشعر، ولها مفهومان قديم وحديث، فالقديم يقتصر على الاستعارة والكناية والتشبيه والمجاز ونحو ذلك، وأما الجديد فيأخذ بعين الاعتبار المفاهيم الجديدة التي طرأت على الشعر الحديث فيضيف الصورة الذهنية والرمزية والأسطورية وغيرها.
    • الخلفية الأسطورية: وهو أن يجعل الشاعر لقصيدته بُعدَين: مباشر وغير مباشر، فالمباشر هو المعنى القريب إلى الواقع الذي يحيا فيه الشاعر، وغير المباشر ويمثل الخلفية الأسطورية التي قصد إليها الشاعر في قصيدته، وهذا يجعل للنص مستويان من الفهم: سطحي وعميق.
    • البناء الفني: وهو أن يربط الشاعر بين البناء الفني وصياغة العنصر الأسطوري، ويتخذ البناء الفني ثلاث حالات هي:
      • صريح أو تام.
      • جزئي.
      • مضمر أو مبهم.

  • المطاوعة: ويقصد بها قابلية تشكيل الأسطورة وفقًا لرُؤى الشاعر وفلسفته، ولها أشكال عديدة منها:[٩]
    • التشابه والتماثل: ويقصد بها إبراز الشاعر وجوه التشابه والتماثل بين العنصر الأسطوري من حيث الأسماء والأبطال والمواقف والحالات والأحداث، وبين العنصر الأدبي كالأسماء والإيحاءات الرمزية.
    • التشوهات والتغييرات: وهو إحداث فُروق من الشاعر بين العنصر الأسطوري الموظَّف وبين العنصر الأدبي المربوط معه.
    • الغموض وتعدد الرؤى: ويُقصد به تغليف النص الشعري بهالة من الغموض تناسب غموض الأسطورة المستعملة في هذا النص.

  • الإشعاع: ويُقصد به الإضاءة على مجمل القصيدة من خلال الزج بالعنصر الأسطوري في العمل كاملًا، وإرخاء ظلاله على مجمل النص وإظهار الخلفية الأسطورية للقارئ.[٩]

ومن الأمثلة على الانزياح الأسطوري قول محمود درويش في قصيدته “تموز والأفعى”:[١٠]

تموزُ مرّ على خرائبنا
وأيقظ شهوة الأفعى
القمح يحصد مرة أخرى
ويعطش للندى.. المرعى

تحولات البنية الشعرية

لقد أدّى لجوء الشعراء إلى الأسطورة والاستقاء من معينها إلى ظهور تحولات نوعية في بنية القصيدة العربية الحديثة، ومن ذلك العلاقة بين المرسل والمتلقي، والتحول في اللغة والتحول في الدلالة الشعرية والتحول في النظام الإيقاعي والهندسي للقصيدة والتحول في الخطاب الشعري، وهذا ما يجعل القصيدة الحداثية لها خصوصية معينة تجعلها تنحاز للواقع من خلال تفاعلها مع التراث الإنساني؛ فهي وإن أفادت من التراثين العربي والإسلامي فإنّها تتوسل إلى ذلك من خلال تراث الأمم الأخرى[١١]، ومن الأمثلة على تحولات البنية الشعرية ما قاله درويش في الجدارية:[١٢]

لا شيء يوجِعني علي باب القيامةِ
لا الزمان ولا العواطف
لا أحِسّ بخفّةِ الأشياء أو ثِقلِ الهواجس
لم أجد أحدا لأسأل:
أين (أيْني) الآن؟
أين مدينة الموتى
وأين أنا؟

تحولات الدلالة الشعرية

لقد طرأت تحولات على بنية القصيدة العربية أدت إلى خلخلة الهيكل الموروث لها، فأصبح لكل قصيدة شكلها الجديد ولا سيّما بعد أن أفادت من معطيات الحداثة في تغيير طريقة بنائها، وحين تخرج القصيدة عن بنيتها التقليدية فإنّه ينبغي للدلالة أن تخضع لمنطق التحول والتغيير، وهذا الأمر يتطلب من المتلقي أن يكون عنده أدوات نقدية لكي يتمكن من فك ما استغلق من الشفرة الدلالية الجديدة[١٣]، ومن تحولات الدلالية الشعرية ما قاله محمود درويش في قصيدته “حجر كنعاني في البحر الميت”:[١٤]

لا بابَ يَفْتَحُهُ أمامي البَحرُ
قُلتُ:
قَصيدتي‏ حَجَرٌ يَطيرُ إلى أبي حَجَلًا
أتَعْلَمُ يا أَبي‏ ماحَلَّ بي؟
لا بابَ يُغْلقُهُ عَلَيَّ الْبحْرُ
لا‏ مرْآة أكْسِرُها لِيْنتشرَ الطّريقُ حَصًى أَمامِي‏
أو زَبَدْ.

نماذج توظيف الأسطورة في الشعر العربي الحديث

مَن أبرز الشعراء المكثرين من استعمال الأسطورة في الشعر العربي الحديث؟

لقد كان للأسطورة حضور كبير في الشعر العربي الحديث عند طائفة كبيرة من الشعراء، ومن أبرز الأمثلة على ذلك:

  • قول بدر شاكر السياب في قصيدته “رسالة من مقبرة” مصورًا المعاناة والخلود في الألم من خلال استعماله أسطورة سيزيف:[١٥]
وعند بابي يصرخ الجائعون:
“في خبزك اليومي دفء الدما
فاملأ لنا، في كل يومٍ، وعاء
من لحمك الحمي الذي نشتهيه
فنكهة الشمس فيه وفيه طعم الهواء”
وعند بابي يصرخ الأشقياء:
“اعصر لنا من مقلتيك الضياء فإننا مظلمون”
وعند بابي يصرخ المخبرون:
“وعرٌ هو المرقى إلى الجلجلهْ
والصخر، يا سيزيف، ما أثقلهْ
سيزيف.. إنّ الصخرة الآخرون”.
  • قول عبد الوهاب البياتي في قصيدته “مرثية إلى عائشة” مصورًا حال العراق والفوضى التي حلت به وهبوطه إلى مراتب متدنية من خلال أسطورة عائشة:[١٦]
فصاحَ بي كاهنُ هذا العالم السفليِّ وهو يشحذُ السكّينْ
مَن الذي أتى بهذا الرجلِ المسكينْ؟
عائشةٌ عادت إلى بلادها البعيدةْ
قصيدةً فوق ضريحٍ، حكمةً قديمةْ
قافيةً يتيمةْ
صفصافةً تبكي على الفراتْ
عاريةَ الأوراقْ
تصنع من دموعها، حارسةُ الأمواتْ
تاجًا لحبٍ ماتْ
فارتفعتْ سحابةٌ من الدخانِ ومضى النهارْ
وثالثٌ ورابعٌ والنارْ
كانت فراشَ مَرضي، وكانت الأحجارْ
وها أنا أموتُ بعد هذه الرؤيا على الأريكةْ
مثلك يا أيتها المليكةْ
أكتبُ فوقَ ورق الصفصافةْ
على الفراتِ بدمي، ما قالت العرّافةْ
للريحِ والعصفورِ والرمادْ
  • قول الشاعر خليل حاوي في قصيدته “بعد الجليد” مصورًا معناة المجتمع وهو يسير متثاقلًا نحو النهوض من خلال أسطورة تموز:[١٧]
يا إلهَ الخصبِ، يا بعلًا يفض
التربةَ العاقِرَ
يا شمسَ الحصيدْ
يا إلهًا ينفضُ القبرَ
ويا فِصْحًا مجيد
أنتَ يا تموزُ، يا شمسَ الحصيدْ
نَجِّنا، نجِّ عروقَ الأرضِ
من عُقْمٍ دَهاها ودهانا
أَدْفئِ المَوتَى الحزانى
والجلاميدَ العَبيدْ
عَبْرَ صحراءِ الجليدْ
أَنتَ يا تمُّوزُ، يا شمسَ الحصيدْ.

تأثير الأسطورة في الشعر العربي الحديث

ما الآثار السلبية والإيجابية لاستعمال الأسطورة؟

لقد كان للأسطورة في الشعر العربي الحديث آثار إيجابية وأخرى سلبية من خلال استعمال الشعراء لها، وتلخيص أهمّها فيما يأتي:[١٨]

  • الآثار الإيجابية: دفع القصيدة العربية نحو مساحات واسعة مليئة بالدراما والدلالات الغامضة والإيحاء الدلالي، وقد نقلت الأسطورةُ القصيدةَ العربية من طور الاستعارة وغيرها إلى توظيف الأسطورة داخل القصيدة توظيفًا فنيًا يندفع الشاعر إلى استعماله من خلال إعادة تشكيل الأسطورة بما يوافق رؤيته الخاصة.
  • الآثار السلبية: إنّ إفراط الشعراء في استعمال الأسطورة ورموزها جعل كثيرًا منهم يحشد في قصيدته أو قصائده كثيرًا من رموز الأساطير من غير أن يكون هنالك داعٍ لها سوى إبراز مقدرة الشاعر الثقافية ونحو ذلك.

جماليات الأسطورة في الشعر العربي الحديث

كيف تكون الغرابة من جماليات الأسطورة؟

للأسطورة في الشعر العربي كثير من الجماليات التي أضفتها على القصيدة العربية الحديثة، ومن تلك الجماليات:[١٩]

  • الغرابة: تضفي الأسطورة على النص شيئًا من الغرابة والغموض، وهذا من أكثر الأمور جذبًا لقرّاء الشعر الحديث الذين يحبون أن يكون النص الشعري حمال أوجه ذا غموض بوّاح ليس فيه مباشرة.
  • دمج عدة أزمنة في نص واحد: تسهم الأسطورة في استحضار أكثر من زمن تاريخي واحد في القصيدة، وذلك من خلال استعمال الرموز التاريخية الأسطورية في أكثر من زمن وعند أكثر من ثقافة، كأن يستعمل الشاعر أسطورة إغريقية ويسقطها على واقعه العربي البعيد عن هذه الثقافة.
  • الثقافة وزيادة الوعي: فعندما يقرأ القارئ نصًّا فيه سيزيف أو عشتار أو تموز أو نحو ذلك من الأساطير فإنّه سيبحث عن أساس هذه الأسطورة وقصتها، ومن ثَمّ فإنّه يصبح قادرًا أكثر على فهم النصوص الشعرية الحديثة.

لقراءة المزيد، انظر هنا: خصائص الأسطورة في الشعر الحديث.

المراجع[+]

  1. سنوسي لخضر، توظيف الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، تلمسان – الجزائر:منشورات جامعة أبو بكر بلقايد، صفحة 98. بتصرّف.
  2. ابن منظور، لسان العرب، صفحة 363 – 364. بتصرّف.
  3. سورة الأنفال، آية:31
  4. سَنوسي لخضر، توظيف الأسطورة في الشّعر العربي المعاصر، تلمسان – الجزائر:منشورات جامعة أبو بكر بلقايد، صفحة 103. بتصرّف.
  5. سنُوسي لَخضر، تَوظيفُ الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، تلمسان – الجزائر:منشورات جامعة أبو بكر بلقايد، صفحة 104 – 109. بتصرّف.
  6. سنوسِي لخضَر، توظيف الأسطورة في الشعر العربيّ المعاصر، تلمسان – الجزائر:منشورات جامعة أبو بكر بلقايد، صفحة 113. بتصرّف.
  7. ^ أ ب رفعت عبد الله حمد المرايات، تحولات التوظيف الأسطوري في الشعر العربي الحديث، الأردن:منشورات جامعة مؤتة، صفحة 43. بتصرّف.
  8. رفعت عبد الله حمد المرايات، تحولات التوظيف الأسطوري في الشعر العربي الحديث، الأردن:منشورات جامعة مؤتة، صفحة 47 – 50. بتصرّف.
  9. ^ أ ب رفعت عبد الله حمد المرايات، تحولات التوظيف الأسطوري في الشعر العربي الحديث، الأردن:منشورات جامعة مؤتة، صفحة 51 – 52. بتصرّف.
  10. “تموز والأفعى”، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 22/4/2021.
  11. رفعت عبد الله حمد المرايات، تحولات التوظيف الأسطوري في الشعر العربي الحديث، الأردن:منشورات جامعة مؤتة، صفحة 118 – 121. بتصرّف.
  12. “جدارية محمود درويش”، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 22/4/2021.
  13. رفعت عبد الله حمد المرايات، تحولات التوظيف الأسطوري في الشعر العربي الحديث، مؤتة:منشورات جامعة مؤتة، صفحة 205. بتصرّف.
  14. “حجر كنعاني في البحر الميت”، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 22/4/2021.
  15. “رسالة من مقبرة”، هنداوي، اطّلع عليه بتاريخ 22/4/2021.
  16. سنوسي لخضر، توظيف الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، تلمسان – الجزائر:منشورات جامعة أبو بكر بلقايد، صفحة 175.
  17. سنوسي لخضر، توظيف الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، تلمسان – الجزائر:منشورات جامعة أبو بكر بلقايد، صفحة 185.
  18. ليندة زيد المال، استدعاء الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، أم البواقي – الجزائر:منشورات جامعة العربي بن مهيدي، صفحة 32 – 34. بتصرّف.
  19. ليندة زيد المال، استدعاء الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، أم البواقي – الجزائر:منشورات جامعة العربي بن مهيدي، صفحة 30. بتصرّف.






X
X
X

اللهم اجعلنا ممن ينشرون العلم ويعملون به واجعله حجه لنا لا علينا

تصميم وبرمجة شركة الفنون لحلول الويب