X
X


موقع اقرا » الآداب » أشعار وأدباء » قصيدة البارودي في مدح الرسول

قصيدة البارودي في مدح الرسول

قصيدة البارودي في مدح الرسول


قصيدة البارودي في مدح الرسول

يقول محمود سامي البارودي في بعض أبيات هذه القصيدة:[١]

يا رَائِدَ البَرقِ يَمّمِ دارَةَ العَلَمِ

وَاحدُ الغَمامَ إِلى حَيٍّ بِذِي سَلَمِ

وَإِن مَرَرتَ عَلى الرَّوحاءِ فَامرِ لَها

أَخلافَ سارِيَةٍ هَتّانَةِ الدِّيَمِ

مِنَ الغِزارِ الَّلواتي في حَوالِبِها

رِيُّ النَّواهِلِ مِن زَرعٍ وَمِن نَعَمِ

إِذا اِستَهَلَّت بِأَرضٍ نَمنَمَت يَدُها

بُرداً مِنَ النَّورِ يَكسُو عارِيَ الأَكَمِ

تَرى النَّباتَ بِها خُضراً سَنابِلُهُ

يَختالُ في حُلَّةٍ مَوشِيَّةِ العَلَمِ

أَدعُو إِلى الدَّارِ بِالسُّقيا وَبِي ظَمَأٌ

أَحَقُّ بِالريِّ لَكِنّي أَخُو كَرَمِ

مَنازِلٌ لِهَواها بَينَ جانِحَتي

وَدِيعَةٌ سِرُّها لَم يَتَّصِل بِفَمي

إِذا تَنَسَّمتُ مِنها نَفحَةً لَعِبَت

بِيَ الصَبابَةُ لِعبَ الريحِ بِالعَلَمِ

أَدِر عَلى السَّمعِ ذِكراها فَإِنَّ لَها

في القَلبِ مَنزِلَةً مَرعِيَّةَ الذِمَمِ

عَهدٌ تَوَلّى وَأَبقى في الفُؤادِ لَهُ

شَوقاً يَفُلُّ شَباةَ الرَأيِ وَالهِمَمِ

إِذا تَذَكَّرتُهُ لاحَت مَخائِلُهُ

لِلعَينِ حَتّى كَأَنّي مِنهُ في حُلُمِ

فَما عَلى الدَهرِ لَو رَقَّت شَمائِلُهُ

فَعادَ بِالوَصل أَو أَلقى يَدَ السَلَمِ

تَكاءَدَتني خُطُوبٌ لَو رَمَيتُ بِها

مَناكِبَ الأَرض لَم تَثبُت عَلى قَدَمِ

في بَلدَةٍ مِثلِ جَوفِ العَير لَستُ أَرى

فيها سِوى أُمَمٍ تَحنُو عَلى صَنَمِ

لا أَستَقِرُّ بِها إِلّا عَلى قَلَقٍ

وَلا أَلَذُّ بِها إِلّا عَلَى أَلَمِ

إِذا تَلَفَّتُّ حَولي لَم أَجد أَثَراً

إِلا خَيالي وَلَم أَسمَع سِوى كَلِمي

فَمَن يَرُدُّ عَلى نَفسي لُبانَتَها

أَو مَن يُجيرُ فُؤادِي مِن يَدِ السَّقَم

لَيتَ القَطا حِينَ سارَت غُدوَةً حَمَلَت

عَنّي رَسائِلَ أَشواقي إِلى إِضَمِ

مَرَّت عَلَينا خِماصاً وَهيَ قارِبَةٌ

مَرَّ العَواصِفِ لا تَلوي عَلى إِرَمِ

لا تُدركُ العَينُ مِنها حينَ تَلمَحُها

إِلا مِثالاً كَلَمعِ البَرقِ في الظُّلَمِ

كَأَنَّها أَحرُفٌ بَرقِيَّةٌ نَبَضَت

بِالسِّلكِ فَانتَشَرَت فِي السَّهل وَالعَلَمِ

لا شَيءَ يَسبِقُها إِلّا إِذا اِعتَقَلَت

بَنانَتي في مَديحِ المُصطَفى قَلَمِي

مُحَمَّدٌ خاتَمُ الرُسلِ الَّذي خَضَعَت

لَهُ البَرِيَّةُ مِن عُربٍ وَمِن عَجَمِ

سَميرُ وَحيٍ وَمَجنى حِكمَةٍ وَنَدى

سَماحَةٍ وَقِرى عافٍ وَرِيُّ ظَمِ

قَد أَبلَغَ الوَحيُ عَنهُ قَبلَ بِعثَتِهِ

مَسامِعَ الرُسلِ قَولاً غَيرَ مُنكَتِمِ

فَذاكَ دَعوَةُ إِبراهيمَ خالِقَهُ

وَسِرُّ ما قالَهُ عِيسى مِنَ القِدَمِ

أَكرِم بِهِ وَبِآباءٍ مُحَجَّلَةٍ

جاءَت بِهِ غُرَّةً في الأَعصُرِ الدُّهُمِ

قَد كانَ في مَلَكوتِ اللَهِ مُدَّخراً

لِدَعوَةٍ كانَ فيها صاحِبَ العَلَمِ

نُورٌ تَنَقَّلَ في الأَكوانِ ساطِعُهُ

تَنَقُّلَ البَدرِ مِن صُلبٍ إِلى رَحِمِ

حَتّى اِستَقَرَّ بِعَبدِ اللَهِ فَاِنبَلَجَت

أَنوارُ غُرَّتِهِ كَالبَدرِ في البُهُمِ

وَاِختارَ آمِنَةَ العَذراءَ صاحِبَةً

لِفَضلِها بَينَ أَهلِ الحِلِّ وَالحَرَمِ

كِلاهُما فِي العُلا كُفءٌ لِصاحِبِهِ

وَالكُفءُ في المَجدِ لا يُستامُ بِالقِيَمِ

فَأَصبَحَت عِندَهُ في بَيتِ مَكرُمَةٍ

شِيدَت دَعائِمُهُ في مَنصِبٍ سِنمِ

وَحِينما حَمَلَت بِالمُصطَفى وَضَعَت

يَدُ المَشيئَةِ عَنها كُلفَةَ الوَجَمِ

وَلاحَ مِن جِسمِها نُورٌ أَضاءَ لَها

قُصُورَ بُصرى بِأَرضِ الشَّأمِ مِن أمَمِ

وَمُذ أَنى الوَضعُ وَهوَ الرَّفعُ مَنزِلَةً

جاءَت بِرُوحٍ بِنُورِ اللَهِ مُتَّسِمِ

ضاءَت بِهِ غُرَّةُ الإِثنَينِ وَاِبتَسَمَت

عَن حُسنِهِ في رَبيعٍ رَوضَةُ الحَرَمِ

وَأَرضَعَتهُ وَلَم تَيأَس حَليمَةُ مِن

قَولِ المَراضِعِ إِنَّ البُؤسَ في اليَتَمِ

فَفاضَ بِالدرِّ ثَدياها وَقَد غَنِيَت

لَيالياً وَهيَ لَم تطعَم وَلَم تَنَمِ

وَاِنهَلَّ بَعدَ اِنقِطاعٍ رِسلُ شارِفِها

حَتّى غَدَت مِن رَفِيهِ العَيشِ في طُعَمِ

فَيَمَّمَت أَهلَها مَملُؤَةً فَرَحاً

بِما أُتيحَ لَها مِن أَوفَرِ النِّعَمِ

وَقَلَّصَ الجَدبُ عَنها فَهيَ طاعِمَةٌ

مِن خَيرِ ما رَفَدَتها ثَلَّةُ الغَنَمِ

وَكَيفَ تَمحَلُ أَرضٌ حَلَّ ساحَتَها

مُحَمَّدٌ وَهوَ غَيثُ الجُودِ وَالكَرَمِ

فَلَم يَزَل عِندَها يَنمُو وَتَكلَؤُهُ

رِعايَةُ اللَهِ مِن سُوءٍ وَمِن وَصَمِ

حَتّى إِذا تَمَّ مِيقاتُ الرَّضاعِ لَهُ

حَولَينِ أَصبَحَ ذا أَيدٍ عَلَى الفُطُمِ

وَجاءَ كَالغُصنِ مَجدُولاً تَرِفُّ عَلى

جَبِينِهِ لَمحاتُ المَجدِ وَالفَهَمِ

قَد تَمَّ عَقلاً وَما تَمَّت رَضاعَتُهُ

وَفاضَ حِلماً وَلَم يَبلُغ مَدى الحُلُمِ

فَبَينَما هُوَ يَرعى البَهمَ طافَ بِهِ

شَخصانِ مِن مَلَكوتِ اللَهِ ذي العِظَمِ

فَأَضجَعاهُ وَشَقّا صَدرَهُ بِيَدٍ

رَفِيقَةٍ لَم يَبِت مِنها عَلى أَلَمِ

وَبَعدَ ما قَضَيا مِن قَلبِهِ وَطَراً

تَوَلَّيا غَسلَهُ بِالسَّلسَلِ الشَّبِمِ

ما عالَجا قَلبَهُ إِلّا لِيَخلُصَ مِن

شَوبِ الهَوى وَيَعِي قُدسِيَّةَ الحِكَمِ

فَيا لَها نِعمَةً لِلّهِ خَصَّ بِها

حَبيبَهُ وَهوَ طِفلٌ غَيرُ مُحتَلِمِ

وَقالَ عَنهُ بُحَيرا حِينَ أَبصَرَهُ

بَأَرضِ بُصرى مَقالاً غَيرَ مُتَّهَمِ

إِذ ظَلَّلَتهُ الغَمامُ الغُرُّ وَانهَصَرَت

عَطفاً عَلَيهِ فُروعُ الضَّالِ وَالسَّلَمِ

بِأَنَّهُ خاتَمُ الرُّسلِ الكِرامِ وَمَن

بِهِ تَزُولُ صُرُوفُ البُؤسِ وَالنِّقَمِ

هَذا وَكَم آيَةٍ سارَت لَهُ فَمَحَت

بِنُورِها ظُلمَةَ الأَهوالِ وَالقُحَمِ

ما مَرَّ يَومٌ لَهُ إِلّا وَقَلَّدَهُ

صَنائِعاً لَم تَزَل فِي الدَّهرِ كَالعَلَمِ

حَتّى اِستَتَمَّ وَلا نُقصانَ يَلحَقُهُ

خَمساً وَعِشرِينَ سِنُّ البارِعِ الفَهِمِ

وَلَقَّبَتهُ قُرَيشٌ بِالأَمينِ عَلى

صِدقِ الأَمانَةِ وَالإِيفاءِ بِالذِّمَمِ

وَدَّت خَديجَةُ أَن يَرعى تِجارَتَها

وِدادَ مُنتَهِزٍ لِلخَيرِ مُغتَنِمِ

فَشَدَّ عَزمَتَها مِنهُ بِمُقتَدِرٍ

ماضِي الجِنانِ إِذا ما هَمَّ لَم يخمِ

وَسارَ مُعتَزِماً لِلشَّأمِ يَصحَبُهُ

في السَّيرِ مَيسُرَةُ المَرضِيُّ فِي الحَشَمِ

فَما أَناخَ بِها حَتّى قَضى وَطَراً

مِن كُلِّ ما رَامَهُ في البَيعِ وَالسَّلَمِ

وَكَيفَ يَخسَرُ مَن لَولاهُ ما رَبِحَت

تِجارَةُ الدِّينِ في سَهلٍ وَفِي عَلَمِ

فَقَصَّ مَيسُرَةُ المَأمونُ قِصَّتَهُ

عَلَى خَديجَةَ سَرداً غَيرَ مُنعَجِمِ

وَما رَواهُ لَهُ كَهلٌ بِصَومَعَةٍ

مِنَ الرَّهابينِ عَن أَسلافِهِ القُدُمِ

في دَوحَةٍ عاجَ خَيرُ المُرسَلينَ بِها

مِن قَبل بعثَتِهِ لِلعُربِ وَالعَجَمِ

هَذا نَبِيٌّ وَلَم يَنزِل بِساحَتِها

إِلّا نَبيٌّ كَريمُ النَّفسِ وَالشِّيَمِ

وَسِيرَةَ المَلَكَينِ الحائِمَينِ عَلى

جَبِينِهِ لِيُظِلّاهُ مِنَ التّهَمِ

فَكانَ ما قَصَّهُ أَصلاً لِما وَصَلَت

بِهِ إِلى الخَيرِ مِن قَصدٍ وَمُعتَزَمِ

أَحسِن بِها وصلَةً في اللَّهِ قَد أَخَذَت

بِها عَلى الدَّهرِ عَقداً غَيرَ مُنفَصِمِ

فَأَصبَحا في صَفاءٍ غَير مُنقَطِعٍ

عَلى الزَّمانِ وَوِدٍّ غَير مُنصَرِمِ

وَحِينَما أَجمَعَت أَمراً قُرَيشُ عَلى

بِنايَةِ البَيتِ ذي الحُجّابِ وَالخَدَمِ

تَجَمَّعَت فِرَقُ الأَحلافِ وَاِقتَسَمَت

بِناءَهُ عَن تَراضٍ خَيرَ مُقتَسَمِ

حَتّى إِذا بَلَغَ البُنيانُ غايَتَهُ

مِن مَوضِعِ الرُّكنِ بَعدَ الكَدِّ وَالجشَمِ

تَسابَقوا طَلَباً لِلأَجرِ وَاِختَصَمُوا

فِيمَن يَشُدُّ بِناهُ كُلَّ مُختَصَمِ

وَأَقسَمَ القَومُ أَن لا صُلحَ يَعصِمُهُم

مِن اقتِحامِ المَنايا أَيّما قَسَمِ

وَأَدخَلوا حينَ جَدَّ الأَمرُ أَيدِيَهُم

لِلشَرِّ في جَفنَةٍ مَملُوءَةٍ بِدَمِ

فَقالَ ذُو رَأيِهِم لا تَعجَلُوا وَخُذُوا

بِالحَزم فَهوَ الَّذي يَشفِي مِنَ الحَزَمِ

لِيَرضَ كُلُّ امرِئٍ مِنّا بِأَوَّلِ مَن

يَأتي فَيَقسِطُ فِينا قِسطَ مُحتَكِمِ

فَكانَ أَوَّلَ آتٍ بَعدَما اِتَّفَقُوا

مُحَمَّدٌ وَهوَ في الخَيراتِ ذُو قَدَمِ

فَقالَ كُلٌّ رَضينا بِالأَمينِ عَلَى

عِلمٍ فَأَكرِم بِهِ مِن عادِلٍ حَكَمِ

فَأَعلَمُوهُ بِما قَد كانَ وَاِحتَكَمُوا

إِلَيهِ في حَلِّ هَذا المُشكِلِ العَمَمِ

فَمَدَّ ثَوباً وَحَطَّ الرُّكنَ في وَسَطٍ

مِنهُ وَقالَ اِرفَعُوهُ جانِبَ الرَّضَمِ

فَنالَ كُلُّ امرِئٍ حَظّاً بِما حَمَلَت

يَداهُ مِنهُ وَلَم يَعتِب عَلى القِسَمِ

حَتّى إِذا اِقتَرَبوا تِلقاءَ مَوضِعِهِ

مِن جانب البَيتِ ذي الأَركان وَالدّعمِ

مَدَّ الرَّسُولُ يَداً مِنهُ مُبارَكَةً

بَنَتهُ في صَدَفٍ مِن باذِخٍ سَنِمِ

فَليَزدَدِ الرُّكنُ تِيهاً حَيثُ نالَ بِهِ

فَخراً أَقامَ لَهُ الدُّنيا عَلَى قَدَمِ

لَو لَم تَكُن يَدُهُ مَسَّتهُ حِينَ بَنَى

ما كانَ أَصبَحَ مَلثُوماً بِكُلِّ فَمِ

يا لَيتَنِي وَالأَمانِي رُبَّما صَدَقَت

أَحظى بِمُعتَنَقٍ مِنهُ وَمُلتَزَمِ

يا حَبَّذا صِبغَةٌ مِن حُسنِهِ أَخَذَت

مِنها الشَّبِيبَةُ لَونَ العُذرِ وَاللمَمِ

كَالخالِ في وَجنَةٍ زِيدَت مَحاسِنُها

بِنُقطَةٍ مِنهُ أَضعافاً مِنَ القِيَمِ

وَكَيفَ لا يَفخَرُ البَيتُ العَتيقُ بِهِ

وَقَد بَنَتهُ يَدٌ فَيّاضَةُ النِّعَمِ

أَكرِم بِهِ وازِعاً لَولا هِدايَتُهُ

لَم يَظهَرِ العَدلُ في أَرضٍ وَلَم يَقُمِ

هَذا الَّذي عَصَمَ اللَّهُ الأَنامَ بِهِ

مِن كُلِّ هَولٍ مِنَ الأَهوالِ مُختَرِمِ

وَحِينَ أَدرَكَ سِنَّ الأَربَعينَ وَما

مِن قَبلِهِ مَبلَغٌ لِلعِلمِ وَالحِكَمِ

حَباهُ ذُو العَرشِ بُرهاناً أَراهُ بِهِ

آيات حِكمَتِهِ في عالَمِ الحُلُمِ

فَكانَ يَمضي لِيَرعى أُنسَ وَحشَتِهِ

في شاسِعٍ ما بِهِ لِلخَلقِ مِن أَرَمِ

فَما يمُرُّ عَلى صَخرٍ وَلا شَجَرٍ

إِلّا وَحَيّاهُ بِالتَّسليمِ مِن أَمَمِ

حَتّى إِذا حانَ أَمرُ الغَيبِ وَاِنحَسَرَت

أَستارُهُ عَن ضَميرِ اللَوحِ وَالقَلَمِ

نادى بِدَعوَتِهِ جَهراً فَأَسمَعَها

في كُلِّ ناحِيةٍ مَن كانَ ذا صَمَمِ

فَكانَ أَوَّلُ مَن في الدِّين تابَعَهُ

خَدِيجَةٌ وَعَلِيٌّ ثابِتُ القَدَمِ

ثُمَّ اِستَجابَت رِجالٌ دُونَ أُسرَتِهِ

وَفي الأَباعِدِ ما يُغني عَنِ الرَّحِمِ

وَمَن أَرادَ بِهِ الرَّحمنُ مَكرُمَةً

هَداهُ لِلرُّشدِ في داجٍ مِنَ الظُّلَمِ

ثُمَّ اِستَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ مُعتَزِماً

يَدعُو إلى رَبِّهِ في كُلِّ مُلتَأَمِ

وَالنّاسُ مِنهُم رَشيدٌ يَستَجِيبُ لَهُ

طَوعاً وَمِنهُم غَوِيٌّ غَيرُ مُحتَشِمِ

حَتّى اِستَرابَت قُرَيشٌ وَاِستَبَدَّ بِها

جَهلٌ تَرَدَّت بِهِ في مارِجٍ ضَرِمِ

وَعَذَّبوا أَهلَ دِينِ اللَّهِ وَاِنتَهَكوا

مَحارِماً أَعقَبَتهُم لَهفَةَ النَّدَمِ

وَقامَ يَدعُو أَبو جَهلٍ عَشِيرَتَهُ

إِلى الضَّلالِ وَلَم يَجنَح إِلى سَلَمِ

يُبدِي خِدَاعاً ويُخفِي ما تَضَمَّنَهُ

ضَمِيرُهُ مِن غَراةِ الحِقد وَالسَّدَمِ

لا يَسلَمُ القَلبُ مِن غِلٍّ أَلَمَّ بِهِ

يَنقى الأَدِيمُ وَيَبقى مَوضِعُ الحَلَمِ

وَالحِقدُ كَالنّارِ إِن أَخفَيتَهُ ظَهَرَت

مِنهُ عَلائِمُ فَوقَ الوَجهِ كَالحُمَمِ

لا يُبصِرُ الحَقَّ مَن جَهلٌ أَحاطَ بِهِ

وَكَيفَ يُبصِرُ نُورَ الحَقِّ وَهوَ عَمِ

كُلُّ امرِئٍ وَاجِدٌ ما قَدَّمَت يَدُهُ

إِذا اِستَوى قائِماً مِن هُوَّةِ الأَدَمِ

وَالخَيرُ وَالشَّرُّ في الدُّنيا مُكافَأَةٌ

وَالنَّفسُ مَسؤولَةٌ عَن كُلِّ مُجتَرَمِ

فَلا يَنَم ظالِمٌ عَمّا جَنَت يَدُهُ

عَلى العِبادِ فَعَينُ اللَّهِ لَم تَنَمِ

وَلَم يَزَل أَهلُ دِين اللَّهِ في نَصَبٍ

مِمّا يُلاقُونَ مِن كَربٍ وَمِن زَأَمِ

حَتّى إِذا لَم يَعُد في الأَمر مَنزَعَةٌ

وَأَصبَحَ الشَّرُّ جَهراً غَيرَ مُنكَتِمِ

سارُوا إِلى الهِجرَةِ الأُولى وَما قَصَدوا

غَيرَ النَّجاشِيِّ مَلكاً صادِقَ الذِّمَمِ

فَأَصبَحُوا عِندَهُ في ظِلِّ مَملَكَةٍ

حَصِينَةٍ وذِمامٍ غَيرِ مُنجَذِمِ

مَن أَنكَرَ الضَّيمَ لَم يَأنَس بِصُحبَتِهِ

وَمَن أَحاطَت بِهِ الأَهوالُ لَم يُقِمِ

وَمُذ رَأى المُشرِكون الدّين قَد وضَحَت

سَماؤُهُ وَاِنجَلَت عَن صِمَّةِ الصِّمَمِ

تَأَلَّبُوا رَغبَةً في الشَّرِّ وَائتَمَرُوا

عَلى الصَّحيفَةِ مِن غَيظٍ وَمِن وَغَمِ

صَحِيفَةٌ وَسَمَت بِالغَدرِ أَوجُهَهُم

وَالغَدرُ يَعلَقُ بِالأَعراضِ كَالدَّسَمِ

فَكَشَّفَ اللَّهُ مِنها غُمَّةً نَزَلَت

بِالمُؤمِنينَ وَرَبِّي كاشِفُ الغُمَمِ

مَن أَضمَرَ السُّوءَ جازاهُ الإِلَهُ بِهِ

وَمَن رَعى البَغيَ لَم يَسلَم مِنَ النِقَمِ

كَفى الطُّفَيلَ بنَ عَمرٍو لُمعَةٌ ظَهَرَت

فِي سَوطِهِ فَأَنارَت سُدفَةَ القَتَمِ

هَدى بِها اللَّهُ دَوساً مِن ضَلالَتِها

فَتابَعَت أَمرَ داعِيها وَلَم تَهِمِ

وَفِي الإِراشِيِّ لِلأَقوامِ مُعتَبَرٌ

إِذ جاءَ مَكَّةَ فِي ذَودٍ مِنَ النّعَمِ

فَباعَها مِن أَبي جَهلٍ فَماطَلَهُ

بِحَقِّهِ وَتَمادى غَيرَ مُحتَشِمِ

فجاءَ مُنتَصِراً يَشكُو ظُلامَتَهُ

إِلى النَّبِيِّ ونِعمَ العَونُ في الإِزَمِ

فَقامَ مُبتَدِراً يَسعى لِنُصرَتِهِ

وَنُصرَةُ الحَقِّ شَأنُ المَرءِ ذِي الهِمَمِ

فَدَقَّ بابَ أَبي جَهلٍ فَجاءَ لَهُ

طَوعاً يَجُرُّ عِنانَ الخائِفِ الزَّرِمِ

فَحِينَ لاقى رَسُولَ اللَّهِ لاحَ لَهُ

فَحلٌ يَحُدُّ إِلَيهِ النابَ مِن أَطَمِ

فَهالَهُ ما رَأى فَاِرتَدَّ مُنزَعِجاً

وَعادَ بِالنَّقدِ بَعدَ المَطلِ عَن رَغَمِ

أَتِلكَ أَم حِينَ نادى سَرحَةً فَأَتَت

إِلَيهِ مَنشُورَةَ الأَغصانِ كَالجُمَمِ

حَنَت عَلَيهِ حُنُوَّ الأُمِّ مِن شَفَقٍ

وَرَفرَفَت فَوقَ ذاكَ الحُسنِ مِن رَخَمِ

جاءَتهُ طَوعاً وَعادَت حينَ قالَ لَها

عُودِي وَلو خُلِّيت لِلشَّوقِ لَم تَرِمِ

وَحَبَّذا لَيلَةُ الإِسراءِ حِينَ سَرى

لَيلاً إِلى المَسجِدِ الأَقصى بِلا أَتَمِ

رَأَى بِهِ مِن كِرامِ الرُّسلِ طائِفَةً

فَأَمَّهُم ثُمَّ صَلَّى خاشِعاً بِهِمِ

بَل حَبَّذا نَهضَةُ المِعراجِ حينَ سَما

بِهِ إِلى مَشهَدٍ في العزِّ لَم يُرَمِ

سَما إِلى الفَلَك الأَعلى فَنالَ بِهِ

قَدراً يَجِلُّ عَن التَّشبيهِ في العِظَمِ

وَسارَ في سُبُحاتِ النُّورِ مُرتَقِياً

إِلى مَدارِجَ أَعيَت كُلَّ مُعتَزِمِ

وَفازَ بِالجَوهَرِ المَكنونِ مِن كَلِمٍ

لَيسَت إِذا قُرِنَت بِالوَصفِ كَالكَلِمِ

سِرٌّ تَحارُ بِهِ الأَلبابُ قاصِرَةً

وَنِعمَةٌ لَم تَكُن في الدَّهرِ كَالنِّعَمِ

هَيهاتَ يَبلُغُ فَهمٌ كُنهَ ما بَلَغَت

قُرباهُ مِنهُ وَقَد ناجاهُ مِن أَمَمِ

فَيا لَها وصلَةً نالَ الحَبيبُ بِها

ما لَم يَنَلهُ مِنَ التَّكريمِ ذُو نَسَمِ

فاقَت جَميعَ اللَّيالي فَهيَ زاهِرَةٌ

بِحُسنِها كَزُهُورِ النّارِ في العَلَمِ

هَذا وَقَد فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاةَ عَلى

عِبادِهِ وَهَداهُم واضِحَ اللَّقَمِ

فَسارَعُوا نَحوَ دِينِ اللَّهِ وَاِنتَصَبُوا

إِلى العِبادَةِ لا يَألُونَ مِن سَأَمِ

وَلَم يَزَل سَيِّدُ الكَونَينِ مُنتَصِباً

لِدَعوَةِ الدِّين لَم يَفتر وَلَم يَجِمِ

يَستَقبِلُ النّاسَ في بَدوٍ وَفي حَضَرٍ

وَيَنشُرُ الدِّينَ في سَهلٍ وَفي عَلَمِ

حَتّى اِستَجابَت لَهُ الأَنصارُ وَاِعتَصَمُوا

بِحَبلِهِ عَن تَراضٍ خَيرَ مُعتَصمِ

فَاِستَكمَلَت بِهِمُ الدُنيا نَضارَتَها

وَأَصبَحَ الدينُ في جَمعٍ بِهِم تَمَمِ

قَومٌ أَقَرُّوا عِمادَ الحَقِّ وَاِصطَلَمُوا

بِيَأسِهِم كُلَّ جَبّارٍ وَمُصطَلِمِ

فَكَم بِهِم أَشرَقَت أَستارُ داجِيَةٍ

وَكَم بِهِم خَمَدَت أَنفاسُ مُختَصِمِ

فَحينَ وافى قُرَيشاً ذِكرُ بَيعَتِهِم

ثارُوا إِلى الشَّرِّ فِعلَ الجاهِلِ العَرِمِ

وَبادَهُوا أَهلَ دِينِ اللَهِ وَاِهتَضَمُوا

حُقُوقَهُم بِالتَّمادِي شَرَّ مُهتَضَمِ

فَكَم تَرى مِن أَسيرٍ لا حِراكَ بِهِ

وَشارِدٍ سارَ مِن فَجٍّ إِلى أَكَمِ

فَهاجَرَ الصَّحبُ إِذ قالَ الرَّسُولُ لَهُم

سيرُوا إِلى طَيبَةَ المَرعِيَّةِ الحُرَمِ

وَظَلَّ في مَكَّةَ المُختارُ مُنتَظِراً

إِذناً مِنَ اللَهِ في سَيرٍ وَمُعتَزَمِ

فَأَوجَسَت خيفَةً مِنهُ قُرَيشُ وَلَم

تَقبَل نَصيحاً وَلَم تَرجع إِلى فَهَمِ

فَاِستَجمَعَت عُصَباً في دارِ نَدوَتِها

تَبغي بِهِ الشَّرَّ مِن حِقدٍ وَمِن أَضَمِ

عن البارودي

هو الشاعر المصري محمود سامي حسن حسين عبد الله البارودي، ولد عام 1839م في مصر، وهو ينتمي إلى أسرة لها نفوذ وقوّة، تلقى تعليمه الابتدائي في منزل أهله، ثم التحق بالمدرسة الحربية، ويُذكر أنّ اهتمامه بالأدب والشعر بدأ منذ سنّ صغيرة، فكان لذلك الأثر الكبير في شخصيته فيما بعد.[٢]

نبذة عن القصيدة

يستذكر محمود سامي البارودي في هذه القصيدة صفات النبي صلى الله عليه وسلم ويسترسل في مدحه وذكر نسبه الشريف وشمائله الكريمة، إلى جانب ذلك أشار إلى حادثة شقّ صدر الرسول صلى الله عليه وسلم، مستعينًا على ذلك بالصور الفنية والتشبيهات الغنية التي تخدم مقصده في المديح.[٢][١]

المراجع

  1. ^ أ ب “يا رائد البرق”، الديوان. بتصرّف.
  2. ^ أ ب علي الجارم، محمد شفيق معروف، ديوان البارودي، صفحة 6. بتصرّف.






X
X
X

اللهم اجعلنا ممن ينشرون العلم ويعملون به واجعله حجه لنا لا علينا

تصميم وبرمجة شركة الفنون لحلول الويب