X
X



كلمات

كلمات


تلعثمت الحكاية منذ بدايتها ، منذ عقود وهي متعثرة الملامح متصدعة الأركان تتأرجح ما بين كمدٍ وكَبْد ، بين ترحالٍ وهجر ، بين الحب المفقود والود المقطوع ، إلا أن رجولةً بدأت تتشرب ريق كلماتها في غصَّة تلك الحكاية . كانت فتوةُ ( آسرٍ ) تنبض بالحياة تغذت بكلماتٍ ونمت وأزهرت بكلمات فحان وقت القطاف . لا يعلم حقاً كيف لكلمات أمِّه أن تستبيح كينونته ، كيف لها أن تفترش سبيله نحو الغد ، هي لم تترك أمعاء فكره خاوية بل أشبعتها وإن جنح لطيش بعض حين .

ما يعلمه الآن أنَّه وبرغم احتباس تأوهاته في متاهاته الضيقة وتغاريد الصمت الذي بدأ يتحسس سطوره العتيقة إلا أنَّ أهزوجة قلبه تنتفض ، وبدأت تتلعثم الحكاية على لسانه الشفاف ، وكأنَّ لسان حال الكلمات التي تذوقتها أذناه تهمس بشغفٍ له : آنَ أوانك ، فلمَ المماطلة التي اعشوشبت خلاياها على جدار اليفاعة ، تَقَدَّمْ فخطواتك كادت تموت لا عزيمة تغذيها أو تقويها ، فكأنَّما شللاً أسدل ملامحه عليها . كانت تلك الكلمات تذكره بأمِّه أو لعلَّه اقتباس باطنه لكلماتها ، أشرقت صورتها في ذاته فنثرت رحيق مسكها في أرجائه فأهدبَ الحنينُ على طرقات مستقبله فحمله وأخذ ينضح منه ليسقي نبضه دون ارتواء . سارعت إليه الذكرى بأسلاكها المكشوفة فتكهرب فكره وتصلب عند مشهد لم يزل تحت تأثير خُدْرِه . كانت والدته حينئذ تقتاتُ على كسرات أمل معه فبقيا على رمق يحييهما حياةً قد كانت كريمةً في بعض زواياها الحادة بعد أن صادر القدرُ أنفاسَ والده ، إلا أنَّ روح والده كانت تحوم على لسان والدته ذهاباً وإيابا _ رجولة ، شهامة ، وفاء ، ومروءة … الخ ، كلها كلمات كانت تلقي بها بين الفينة والأخرى على مرمى منه . كانت كلماتٌ تُنْسجُ ببراعة على لسانها كما أنَّ العينين لم تكونا أقل براعة في تمثيل تلك الكلمات ، كانت تحدثه لا بل كانت تنشد له أخلاق والده الراقية ، كم أسرته كلماتُها ذات النسق عن والده فأحبه وأتقن حبه ، كان ألبوم الصور قاموسه للتعرف على شخص أبيه وكلمات والدته موسوعة تجسد له شخصية والده فوثَّقت معايير ثبتت في ذهنه وصميم لبِّه ، هو يعلم كيف ستكون رجولته منذ نعومة أنفاسه ، وبعد أنَّ اخشوشنت حباله الصوتية أصبح قدراً مقدوراً أن يتشبه بوالده .

مشهدٌ طالت أحداثه استوطنت ذاكرته ، ترامت أطرافُ آماله وكَبُرتْ معه ، إلا أنَّ ذاكرته فاتها بعض المشاهد التي قُدِّرَ أن تكون قبل ولادته . تلحَّفت أمه الظلم وتنفست بثالوث الوحدة والألم والصبر تحمَّلت ، فجنينها الوحيد يُحييها بوكزاته لذا بقي جزءٌ منها صافياً لم تعكره وكزات والده الذي ما إن شَقَّ الجنين طريقه للحياة حتى فتحت الآخرة ذراعيها لوالده .

ذهب لوالدته وقبَّل جبينها أراد أن يشكرها لمنحها إياه فرصة التعرف على والده ، قرأت على مكث كتاب وجهه الذي ارتسمت عليه تفاصيل شتى وملامح فتيَّة ، تأملت ، ابتسمت ، غافلتها دمعةٌ فانسدلت ، وانسدلت معها ستارة المعركة التي بدأتها هي بكلمات أرضعته حروفها فكانت كل رشفة بحرف وكل ضمة بكلمة وكل ابتسامة بقصةٍ وحدث . مرَّر أنامله على تجاعيد وجهها فأزاح آثار الدمعة ، لكنه ما علم بآثار ظلت حبيسة قلبها ما اطلع عليها أحد سوى الله . فأنهى فصلاً من فصول الحكاية التي بدأت متلعثمة بأوجاع أمِّه التي ما إن استرجعت حبها ووصلتْ وُدَّها بفلذة كبدها حتى استرقَّت عبراتُ قلبها الذي تطاولت آماله عنان السماء و شقها بدعاء لم تذبل كلماته على ثغرها أبداً بل حيَّة بلهجها .







X
X
X

اللهم اجعلنا ممن ينشرون العلم ويعملون به واجعله حجه لنا لا علينا

تصميم وبرمجة شركة الفنون لحلول الويب